وداعا أسطورة كرة القدم «29»
تنتشي مدينة نابولي فرحا بمقدم الفتى الذهبي، فتبدي زينتها للقادم الاسطوري، تحييه برفرفات أعلام وهتافات جماهيرية، لافتات متدلية من النوافذ وشرفات المنازل، بعضها منسدل من أعلى السطوح وأخرى معلقات بين الجدران وتقاطعات الطرق، أقمشة زاهية تفيض محبة وحميمة شعب، ترفل بشعار وألوان نادي نابولي السماوي، مدونة بعبارات ترحيبية وصور للفتى بهندامه الرياضي، ”الآن أصبح الأسطورة بيننا“ ”مارادونا نحبك، فنحن سعداء لأنك بيننا“، ”FORZA MARADONA - هيا مارادونا“.
يا فتى إنه شعب شغوف لمجيئك، متلهف لرؤياك، متطلع لفنك، ينتظرك بكل الشوق، لتحقق آمال النابلويين المضطهدين من ظلم الشمال القاسي ونظراته المتعالية والمتعجرفة ضد ناديهم المشبع بالهزائم والمتذيل قائمة ”دوري الكالشيو“ القريب جدا من حالات الهبوط للثانية، يكافح من أجل البقاء في الدرجة الأولى مع نهاية كل موسم رياضي.
كم يمنون النفس بأن تخرجهم من احباطهم المستمر. مشجعون متيمون ربطوا أنفسهم بالسلاسل على سياج ملعبهم «سان باولو» يرجونك لتأتي اليهم لتنقذهم من حالات التيه والإذلال.
صور ناطقة أبلغك بها المدير الرياضي لنابولي ”انطونيو جوليانو“ وبحالة حبهم الجنوني لك، وأن شعبه سيموت من أجلك، وذلك أثناء جولة المفاوضات معك، وكاد ”جوسيب نونيز“ رئيس برشلونه المتحامل ضدك أن يعرقل الصفقة في اللحظات الأخيرة، خصوصا حين علم باستماتة النابلوليين نحوك، طالبا بزيادة مبلغ اضافي قدره 500 الف جنيه استرليني! ليكون المبلغ الاجمالي 6,9 مليون جنيه. كيف لنادي نابولي أن يدبر الزيادة وخزينته باتت شبه خاوية، من أين المال؟
الإصرار وروح التحدي صنعا تضامنا غير مسبوق في الأندية الايطالية لفعل شعب جنوبي ضرب مثلا يحتذى به من أجل أن تكون بينهم، اكراما لمدينتهم العريقة واعتزازا بناديهم، فقد جمعوا التبرعات من خلال توزيع مجموعات في الشوارع والاحياء، وابرزها في الحي الاسباني المزدحم بالسكان، وثمة حوالات أتت من المقتدرين والميسورين وعليّة القوم، وسيولات نقدية من أصحاب الدخل المحدود، وحتى التعساء والفقراء مدوا يد العون والمساعدة بما تيسر، مساهمات عديدة من كل أنحاء المدينة وما جاورها من البلدات، الاف الليرات الايطالية جمعت بتسارع يومي وأضيفت مع أموال المتبرع الأكبر رئيس النادي ”كورادو فيرلاينو“ فخر نابولي والمؤثر في المشهد، وأيضا المؤسسات وشركات المدينة لم تتخلف عن ركب التبرعات.
أجواء تضامنية تفيض بالعنفوان وجموح العواطف، أمطرتك بوابل محبة، فاستجاب قلبك طوعا، لم تغرنك تلك الأندية التي دخلت على الخط في اللحظات الاخيرة فاصبحت مزايداتها خاسرة، هي اندية الشمال المتخمة بالمال والاعلام والبهرجة والغرور، استجبت للمحبين لك ولهفة الموعزين وانين البؤساء ومناداة الفقراء من ابناء نابولي الذي ذكروك بطفولتك ونشأتك المعدمة في ”فيلافيوريتو“ احدى ضواحي ”بوينس آيرس“ ذلك المكان المكتظ بالسكان، الفائض بالأوساخ والمجاري والأكواخ، المعششة بالفقر الذي نهش جلدك، كنت تنسى حالة البؤس حين تلعب بالكرة لساعات مع أقرانك وتنصرف عند حلول الظلام، ذلك الحي البائس الذي شهد بدايات تفجر موهبتك، وباركت تربته ردحك الأول، صبية صاحوا ”ديجو.. ديجو“ على اثر مراوغتك الراقصة التي توقف العابرين، وركلاتك المدوية صوب مرمى من دون شبك ولا قوائم، تعلن أهدافا مع تطاير الغبار، فترتطم الكرة بجدران بيوت الصفيح محدثة فزع أهالي الدار.
ها هو شعب نابولي يفز لك كطفل ينتظر هدايا عيد الميلاد، ناسيا همومه وحالاته المعيشية المتردية، وبأعلى صوته يناديك ويحييك، وباسم مدينته الغنية بجمال المكان وعمق التاريخ الضارب في القدم.
نابولي تفتح خزائنها الحضارية وتستقبلك بصلابة أرض شهدت صراعات وتألق أمم وأفول ممالك، مع مجيئك أبصرتها دهشة من نور، ورؤية من عجب، ففي كل ناحية قصة وكل جدار أثري ورائه حكاية.
مدينة مفتوحة على اللازورد في عناق أبدي، تستأنس لنوارس البحر طيلة الوقت، صوت الموج الذي لايهدأ يداعب منازلها وجدران حديقتها المعلقة التي تشبه حدائق بابل الأسطورية، مدينة جلبت سفن الغزاة فاقتحموا قلاعها وهدموا الأسوار، طمع في أراضيها كل عابر ومحتال، نهبت واستبيحت على مدى قرون، تقاطر الدم على السواحل وسال على سفوح الجبال، وبين تخومها ذات ليل سنة 79 م، غضبت الطبيعة بانفجار بركان من جبل ”فيزوف“ وخلف مأساة انسانية، فطمر احدى بلدات نابولي المسماة ”بومبي“ بكاملها، غابت عن العيون لمدة قرون، وأميط عنها الركام صدفة قبل 150 عاما، فكشف عن مدينة ملئ بالعجائب والأسرار - كاتب السطور زار بومبي ووثقها صوت وصورة قبل أربع سنوات - هي محج سواح العالم، وقيل عنها ما قيل والعنوان الأبرز بأنها مكان للفحشاء والرذيلة، فأتاها الغضب الالهي فجعلها غثاء أحوى، وهناك من يبرؤها ويراها بأنها حضارة سادت ثم بادت، لاشك هي احدى عجائب العالم القديم مثلت نهضة أمة في الفكر والعلم والفن والسياسة.
مساحة نابولي وبلداتها متناثرة بامتداد أراضيها الخضراء، طمع فيها الطامعون وسرقها الغزاة والأفاقون، وتوالى على ممالكها سلالات من حكام وأمراء ودوقيات وأساقفة قبل وبعد الميلاد، ومر بها العرب وجابوا طرقاتها بالخيل والعتاد، لنجدة أحد ملوكها، حروب لم تهدأ الا بعد أن توحدت اراضي الأمة الايطالية قبل قرن ونصف من الزمان «1871».
الداخل لنابولي يرى التاريخ يتكلم دون ترجمة أو شرح، هي متحف مفتوح تخلب الحواس، صنفها اليونسكو في قائمة التراث العالمي، كنوز تخاطب البصر والبصيرة لمعالم تعود لقرون خلت ولم تزل شامخة إلى اليوم، آثار وكنائس وأديرة وقصور وتشكيلات معمارية من الفن القوطي والرمانسي والباروك، وأيضا من وحي السلطنة العثمانية والعرب، تأثيرات حاضرة تنطق سيرة كل من مروا بها غزوا أو استيلاء أو حصارا، شواهد شامخة تدل على عظمة نابولي ومكانتها بين أمم التاريخ، حيث تعود نشأتها منذ العصر الحجري، والأغريق أسسوها تمدنا منذ القرن الثامن قبل الميلاد، وكذا الرومان الذين أحدثوا فيها نقلة نوعية كبيرة، اقتحهمها النورمانديون القادمون من شمال اوروبا الزاحفون بجيوشهم الجرارة لتوسيع ممالكهم، فبنوا فيها القلاع والحصون، ومن قبلهم مجدها الاسكندر «سيد العالم»، وعند وصول الأسطورة سيجعلها سيدة اللعبة في ايطاليا لردح من الزمن، بل سيحولها لأيقونة تاريخية رياضية على مستوى العالم، نابولي النادي والمدينة ستفتحان أمجادا للفتى الذهبي لسنين سبع قادمة، هي من أبهر وأمتع سني أسطورة كرة القدم.