آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

قصة قصيرة

القزم وكاميليا وأدريان

سهام طاهر البوشاجع *

كان يركض بسرعة فائقة وسط غابة مليئة بأشجار العرعر والبلوط والزان العملاقة، وكانت الأغصان المتسلقة تملأ المكان مما جعله يتعثر أحيانا بينها. وفي كل مرة يتعثر فيها كانت تلك الأغصان تؤخر وصوله إلى مراسم زفاف بنت السلطان، وقد تنافسا على من يضع الزهور على رأس الأميرة أولا أو الخاتم في إصبعها؟

تعثر أربع مرات فتأخر عن موعده أربع دقائق، كانت كفيلة بأن تعتلي «كاميليا» العرش المعد لتتويجها بالرباط المقدس مع «أدريان» الوسيم، الذي ظل سعيه سنوات طويلة بين مد الوصول إليها وجزر الابتعاد عنها، بحكم العادات والتقاليد الملكية، فكيف لأحد من أبناء العامة، أن يرتبط بأميرات البلاط الملكي؟ وكيف لأميرة جميلة أن تهب قلبها وحياتها لشاب من أبناء العاملين في الجزيرة.

وها هو على وشك أن يمسك بإصبع «كاميليا» وينحني لها مقلدا إياها خاتم الزواج، المصنوع من أندر قطع الماسات البيضاء في العالم، والذي اشتراه من أفضل صاغة بلاد الشرق بعد أن عمل بجد، وباع أغلى ما يملك من خيوله التي اشتهر بتربيتها وترويض الجامح منها، وبعد أن عبر الخاتم أكبر باخرة شقت عباب المحيط الهادي، ووصلت إلى جزيرة «الأقزام»، الجزيرة الهادئة شرق المحيط، وعلى بعد مئة ألف كيلو متر عن شواطئ جزيرة «بورا بورا» حيث يقطنها عشرات العوائل من الأقزام.

ظل الأقزام يعيشون هذه الجزيرة في هدوء وراحة بال، إلى أن وجدها ذات يوم بحارة كانت تسعى وراء البحث عن الألماس في قاع وشواطئ بحار ومحيطات العالم، وعندما حطت سفينة البحارة شواطئ جزيرة الأقزام، وراحوا في استكشاف معالمها وأخذ قسط من الراحة بين أشجارها وغاباتها ليكملوا مسيرة البحث في اليوم التالي، تفاجأوا بوجود سد بشرى، قزم يحمل الفؤوس والمناجيق ويحول بينهم وبين الراحة.

وبعد ساعات من النقاش المستفيض بين الغريب من المصطلحات وترجمتها إلى لغة مفهومة، عزم كلا الطرفين على أخذ هدنة ليوم واحد، لا يتعرض فيه أحدهما للآخر، وفي آخر ساعة من يوم الهدنة كان على البحارة مغادرة الجزيرة كما تم الاتفاق، إلا أن هناك شيء ما حدث أخر الرحيل وعطله إلى ما يقارب ثمانية عشر عاما.

ما لم يكن بالحسبان أن رئيس البحارة كان مصطحبا معه زوجته التي كانت حاملا في شهرها الأخير، وكان عليها أن تصل في هذه الرحلة مع زوجها البحار إلى أهلها في شمال المحيط، وكانت قد اضطرت أن تمر على كل محطات البحارة حتى تصل إلى هناك، وتكمل حملها وتنتظر مولودتها بسلام، لكن جرت الأمور على غير المخطط لها، فقد ولدت «ساندرا» طفلتها في جزيرة الأقزام، وكانت من دساتير شعب الأقزام في تلك الجزيرة أن المولود على أراضيها ملكا لها، أي يبقى رهينا بولاء للأرض التي ولد عليها إلى أن يكبر ويصبح قادرا على أن يقرر بنفسه إما البقاء أو الرحيل، وكان لزاما على البحارة آنذاك، أن تلزم بهذه القوانين وإلا ستعرض نفسها للخطر وللقتل إن لم تمتثل لذلك.

لحسن الحظ أن البحارة كانوا قد اصطحبوا في رحلتهم هذه أزواجهم وأطفالهم إذ كانوا يودون أن تكون وجهتهم بعد البحث عن الألماس بين جزر المحيط أن يستقروا في إحداها ويعمرونها ويستحوذون عليها فتكون لهم وطنا مستقلا.

فأتت ولادة «كاميليا» القدر الذي لم يخطط له أن يكون، فتفاءلوا بها وعرفوا من ذلك أنها ربما تكون رسالة سماوية إيجابية تخبرهم بأن هذه الجزيرة هي مبتغاهم ومطلبهم.

عاش «أدريان» ابن عامل الصياغة والحرفيين وقد كان عمره عندما نزلوا إلى الجزيرة عشرة أعوام، بعيني طموحة وبجد واجتهاد في رعاية وتعليم «كاميليا» بناء على طلب والدها السلطان القائد «أوقيان» له، إذ كان يتمتع بالذكاء وحسن التصرف رغم صغر سنه، ولأنه تلقى علوما مختلفة على يد والده رغم أنه عامل بسيط يشتغل لديه.

ظل البحارة وأسرهم رهينة هذا العرف متعايشين مع الأقزام ثمانية عشر عاما، كانت «كاميليا» تكبر تحت نظرهم جميعا، وقد نسوا مع السنوات أنهم اتخذوا الجزيرة محطة راحة لسويعات، وإذ تبدلت السويعات إلى عدة سنوات.

أحب القزم «نور» «كاميليا» مثلما أحبها «أدريان» تماما وفي كل مرة كانا يتنافسان لخطف قلبها وهي تكبر عاما بعد عام، بعد أن أكملت «كاميليا» عامها الخامس عشر وعرفت بقصة البحارة وولادتها قررت أن تغادر الجزيرة ويكون بهذا القرار قد أنهت العهد الذي اكتتبه الفريقين ”الأقزام والبحارة“ قبل 15 عاما، لكن حدث أن «نور» أعلن حبه أمام الجميع «لكاميليا» وكان في دستور الأقزام أن من يعلن حبه لأحد ما، يكون بذلك قد جرد الطرف الآخر من أي عهود أو وعود. وبهذا الإعلان تحررت «كاميليا» وأسرتها وكامل البحارة وأسرهم من عهد ظل يقيدهم عدة سنوات مضت، وجاءت الآمال والطموحات بمغادرة الجزيرة والبحث عن مستقر آخر يكون محطة جديدة لهم، ولكن حصل أمر ما!

مالم يكن في حسابات البشر ولا في قراراتهم أن اعتلى الحب على كل العهود والمواثيق حتى أنه مزقها من دفاتر الدساتير فبالحب تتخطى العقول كل الخطوط الحمراء، وبالحب تحفر السماء وتخترق الأرض بل وتنقلب كل الموازين أحبت كاميليا «نور» وأحب «كاميليا» «أدريان» فصار قلب الأميرة الصغير ملكا لغيرها وقلب ابن عامل الصياغة ملكا «لكاميليا» وهكذا عاش الثلاثة، ثلاث سنوات أخرى من التحرر في كل يوم تشد الرحال في أوله وتعود أدراجها في منتصفه، امتثالا لقرارات الحب ومفاهيم العاطفة.

«نور» قزم لا يتوافق مع عالم الكبار هكذا كان يحدث نفسه، و«أدريان» فقير ليس جدير بابنة السلطان قائدهم الذي عين نفسه سلطانا عليهم قياسا على ثروته الطائلة وامتيازاته كقائد.

وفي يوم من الأيام وبعد أن استطاع «أدريان» إحضار خاتم الزواج المرصع بأغلى ماسات العالم وبعد أن باع أمهر وأفضل الخيول لديه للحصول عليها، مسحت «كاميليا» على رأس «نور» وقالت له أنت بمثابة أخي الذي أحبه كثيرا وأكمل هو عنها بقية الجملة

نعم.. وأدريان هو فارسك المنتظر!

ولكن إن استطعت أن أضع على رأسك عقدا من زهور الزنابق البيضاء في ليلة زفافك قبل الخاتم الذي سيضعه «أدريان» في إصبعك سأحظى بك زوجة، وهذا دستور آخر لا تعرفونه أنتم الكبار في عالمنا نحن الأقزام ومن يصل أولا بعقد الزهور إلى محبوبته يكون هو زوجها.

هزت «كاميليا» رأسا عن موافقة ورضوخ لدساتيرهم واحتراما منها لآخر الدساتير المعلنة إذا ستقرر بعدها إما البقاء بفضل عقد من الزنابق البيضاء أو الرحيل بفضل خاتم من الألماس.

جاء يوم الزفاف وها هو «نور» يطير بالعقد متجاوزا حواجز الطبيعة بين الغابات، وها هي «كاميليا» تتقدم خطوات نحو منصة الزفاف.

كاتبة ومحررة في صحيفة المنيزلة نيوز