رامبو يصفع علي شمّاخ!
سيدي:
ألتمس منكم العذر سلفا لعرضي عليكم هذه الحادثة، مطالبًا رأيكم فيها.
في هذا اليوم، عند الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، سمحت لنفسي يصفع المدعو علي شمَّاخ، دون قسوة، وهو القيِّم على مخزن الوكالة التي اعمل فيها، وذلك بعد أن تواقح عليَّ.
عمّال الوكالة وبعض الشهود العرب، قبضوا عليَّ وسمحوا للمدعو على شمَّاخ بالرد، فصفعني على وجهي ومزّق ثيابي، ثم أمسك بعصا وهدَّدني بها، الناس الحاضرون تدخَّلوا لحسم النزاع، فانسحب علي، ثم ذهب إلى الشرطة البلدية، وقدَّم شكوى ضدي بتهمة ضربه وجرحه، واستنجد بعدد من شهود الزور، لكي يصرّحوا بأنني هدّدته بالضرب بخنجر، إلخ إلخ، وغير ذلك من الأكاذيب المختلقة لتوتير القضية على حسابي، وكراهية السكان المحليين ضدي..
* * * *
هذه الرسالة وجّهها الشاعر الفرنسي الشهير رامبو في 28 کانون الثاني 1883م إلى السيد دي غسباري نائب قنصل فرنسا في عدن، بإمكانها أن ترفع الستار عن «حياة أخرى» عاشها رامبو، بعيدًا عن الشعر والصعلكة والفنون والجنون، والذهاب والمجيء برفقة «والبة بن الحباب الفرنسي»! الشاعر فرلىن:
«كنت أرانا كصبيين طبيعيين يتجوّلان بحرِّيَّة في فردوس الحزن...
وكنا تائهين نتغذى بخمر باليرما وخبز الطريق
وأنا على عجل لأجد المكان والصيغة».
وهكذا راحت «الروح الكبيرة والغالية» كما يعبّر فرلين في أول ردة فعل على ظاهرة رامبو.. هذا الذي أصبح يمضي حالمًا «ويبعثر في طريقه القوافي»، فارًّا من قريته في الجنوب الفرنسي «شارلفيل» وذارعًا مع صديقه بعض دول أوروبا الهرمة!!
غير أنه سرعان ما تحدث المأساة في بروکسل، فبعدما قرّر رامبو العودة إلى باريس، بعد شهور من زيارات الصعلكة والشعر والرغبة في تحطيم الذات والعالم، يصمم «فرلىن» بجنون على استبقائه.. وبين إصرار الصديقين المترنّح بين المغادرة والبقاء، الانفصال والتوحّد، بين محاولة رامبو الفرار من سيطرة العشق الفرليني، وبين محاولة فرلين تعويض حبِّه الذي فقده في زوجته بعد تعلّقة بهذا النواسي الفرنسي! الآتي مع روح العنب من شارلفىل، آنذاك تصل العلاقة الملتهبة إلى حدود الغيرة، التي تذكّرنا من طرف إيجابي بغيرة ديك الجن على ورد.
إن فرلين يصمم على ذبح صاحبه - تمامًا - مثلما فعل ديك الجن ذو العينين الخضراوين، مع «ورد» التي روى ثراها بدم عشقه.
يصف رامبو لحظات العشق القاتل، أو القتل العشقي في دفتر الضبط الذي سجلته شرطة بروکسل.
كان لا يزال - أي فرلين - مصرًّا على منعي من تنفيذ رغبتي في العودة إلى باريس، ولكنني ظللت عند عزمي وطلبت من أمه «وكانت قد جاءت من باريس لإرجاع ابنها الهارب من زوجته» بعض المال لتأمين نفقات السفر، وحينئدٍ أغلق باب الغرفة بالمفتاح، وأسند مقعدة إلى الباب، کنت واقفًا وظهري إلى الحائط المقابل، وعندئذٍ قال لي: خذ هذه من أجلك لأنك تريد الذهاب، أو ما معناه وصوّب إليَّ مسدسه، وأطلق عليَّ النار فأصابني في معصمي الأيسر، وأعقب الطلقة الأولى طلقة ثانية، ولكن المسدس هذه المرة لم يكن مصوّبًا نحوي.
عند هذه اللحظات يقف كثير من دارسي حياة رامبو ومحللي شعره باحثين عن الخط الفاصل بين حياة رامبو الشعرية، التي بدأها وهو في عمر السابعة، حيث كان يلتقط القمل من شعر رأسه، ويلقي بها على القسس! لينهيها وهو على عتبة العشرين، شاعرًا مبهرًا هز الشعر الفرنسي هزًا عنيفًا، وبين حياته الأخرى المجهولة، والعديمة الجدوى في حياته الشعرية.
إن رامبو يعود بعد هذه الحادثة إلى مزرعة العائلة في مروش.. وبمجرد أن يلتقط أنفاسه بعد وعثاء الرحلة الشيطانية، حتى تأخذه نوبة من البكاء العميق، ويدخل بعد ذلك في حالة من الصمت، قادته إلى مخزن الحبوب ليحبس نفسه لأيام، وكتب إثرها وصيته الفنية، معلنًا القطيعة مع الشعر والمجتمع والعالم.
إنه يكتب «فصل في الجحيم» بعد «الأشعار» و«إشراقات» ليسجل في تاريخ الشعر الفرنسي تحوّلًا خطيرًا في الكتابة الشعرية، هي ما عرفت بعد ذلك في أعمال المتمرّدين من مبدعي أوروبا ومناصري قيم الحرية والحداثة.
يكتب «فصل في الجحيم» فيغادر الشعر وفرنسا، إلى عدن عبر ميناء الإسكندرية، حيث يتعرض لسرقة ماله ووثائقه، فيحتال للسفر عبر البحر الأحمر، متوقفًا في ميناء جدة إذ عاقبه موظفو جماركه بالسجن لشهور، ثم يرحل إلى ساحل القرن الأفريقي، باحثًا عن الذهب الذي راوده بريقه، وهو يكتب الشعر على مشارف الحدود بين الخيال واليقظة، والحلم والواقع، والجنون والسفر.
إنه يتوب.. ألم يفعل أبو نواس ذلك، حينما كفَّر عن حياته وسيئاته وشعره ومجونه وجنونه بالحج، بل يكتب شعرًا يفيض بإشراقات الزهد والتوبة، ألم يفعل السياب صنيعه بعد حياة حافلة بالشعر والحب الموؤود، والصراع المأساوي مع المرض. إنه في النهاية يتوب ويناجي أىوب ويحمد اللَّه رغم الابتلاء.
إن ظاهرة رامبو الشعرية، كانت تعبيرًا عن تحوّلات عنيفة، سادت أوروبا بعد التطور التاريخي الذي وصلت إليه مجتمعاتها.
وإن وجدنا في شعر رامبو وحياته من قلق وخروج على المألوف، فإن ذلك لم يكن إلَّا استجابة لهموم مجتمعه، الذي كان يتلخص في بيته وأسرته، وهما يحثان سير الحياة الصعبة نحو الحياة بسعادة، غير أن ذلك كان مطلبًا عسيرًا.. فرأسماليو فرنسا يحتكرون كل شيء من الثروات، ويتنعّمون بكل شيء من المباهج، لذلك كانت ثقافة الأنوار - آنذاك - ذات بريق، أما الشعر فكان فضفاضًا ذا رنين.
هكذا كان البرناسيون معبّرين، عن أجواء باريس البرجوازية في صالوناتهم الأدبية متعالين على الواقع.
وقد كان ذلك أمرًا مقضيًّا بظاهرة الاستعمار المترفة، ونشاطاته السياسية والاقتصادية، الممتدة في الشرق والمتغولة في الغرب.
من هنا تجيء حياة رامبو الصاخبة بكل ما هو مخالف، تعبيرًا شعريًّا فضًّا، ضد كل المواضعات النسقية في الحياة والشعر، لذلك يصمم قبل إعلان القطيعة مع الشعر وفرنسا.. على إعلان القطيعة مع هذه المواضعات السائدة، التي غذَّتها بعوائد المال المنهوب من مستعمرات الشرق، مثلما غذَّت ظاهرة أبو نواس، تدفّق المال في العصر العباسي من عوائد الفتوح.
إن «فصل في الجحيم» الذي هي اختزال لحياة رامبو الشعرية القصيرة، أصبح في ما بعد «مانيفستو» الشعراء ضد كل ما هو تقليدي وجبان وساكن، سواء كان ذلك يتعلّق بالسائد الاجتماعي أو النسق الشعري.
فرامبو في رائعته «فينوس» يلحّ على تلمس المفارقة بين فينوس في الأسطورة الإغريقية كرمز مطلق للجمال.. وبين ما يتصوره فيها، وقد استحالت إلى امرأة بشعة بكل ما في حياته وتجربته ومجتمعه من قبح وقروح وغلاظة.. إنه هنا يسخر کما يقول الدكتور عبد الغفار مكاوي في كتابه «ثورة الشعر الحديث» من شعراء الباراناس الذين كانوا يزوّقون شعرهم بالأساطير تزويقًا، ينسجم مع الأضواء الصالونية الباريسية، هذه التي كرهها رامبو وثار عليها، وانهال عليها بكل ما في قريحته من شعر وجنون.
وهكذا يواصل رامبو سخريته منهالًا على هؤلاء الشعراء الذين كان همهم، ينحصر في ترصىع أشعارهم بالزهور ورموز الطبيعة الجميلة!! فيكتب من أجل ذلك قصيدته «ما يقال للشاعر عن الزهور» متى؟ في عصر الجشع الرأسمالي، والثورات، وحروب المئة عام، وانتهاب ثروات العرب والأفارقة، حيث كانت دول أوروبا الاستعمارية، وفي مقدمتها فرنسا نابليون، تشق طريقها إلى الوجود العسكري في مصر والشام والمغرب وجنوب الجزيرة العربية وساحل القرن الإفريقي.. عبر المضاربات والتنافس مع بريطانيا، على طرق التجارة العالمية، وسرقة ثروات الشرق والهيمنة على سحره الخلاب!!
إن رامبو بشعره الجديد الخارق للعادة، كان يرسّخ قيمًا فنية جديدة هي التي قامت عليها جمالية الحداثة في العالم الجديد، غير أن خطيئته المضادّة، وهو يحطم حواسه في سبيل امتلاك قوة المستقبل الشعري، هي التي جعلته يربط الفعل الشعري، والفعل الإنساني غائبًا فيها عن الواقع، بفعل أوهام وممارسات بوهيمية شيطانية، كانت تعبيرًا ساخطًا على الخطيئة المسيحية!!
إن الجمال يتحول عنده من قيمة مطلقة معلّقة في الهواء، وبعيدة عن جاذبية الأرض والإنسان، إلى جمال مرّ المذاق، ذلك هو ما يحسه عندما يضع «الجمال - ذات مساء - على ركبتيه، ويحمل السلاح في وجه العدالة»!.
العدالة المزيفة، عدالة رأسماليي أوروبا الاستعماريين، الذين رسموا نمطا ثابتًا وفارغًا ومحنّطًا للحياة والفنون والآداب، ممّا جعله يعيش اغترابًا وجوديًّا وهو يتردد على مقاهي باريس.
لقد كان رامبو صادقًا مع نفسه.. فوضعه الاجتماعي شبه البائس، كان يتفكك بفعل طلاق الأب لأمه تفکكًا اجتماعيًّا، كان امتدادًا لما يحدث من انهيار أوروبي، في مؤسسات سنوات القرون الوسطى، تطلعًا إلى معانقة العالم الجديد بعد الثورة الصناعية الإنجليزية، والثورة السياسية، الاجتماعية والثقافية الفرنسية، إن هذا في الذي جعل رامبو يثور على حياته الروتينية الهادئة في قرية ب «شارلفيل».
غير أن هذا الوهج يخفت، بل يتلاشى على حين غرة، وهو يعود من بروکسل بعد مصادمته مع معلمه العاشق «فرلىن».
ويقرّر بعد كتابته الفورية لـ «فصل في الجيم» إعلان القطيعة مع نفسه کشاعر، ومغادرة أوروبا «ليحرق هواء البحر رئتي.. وستلفح جسمي الأقاليم الضائعة» هكذا يقول في سنة 1873م، وبعدها يصممم - كما يقول كولن وىلسون في كتابه «سقوط الحضارة» - على فقدان أية صلة نصيّة بحياة رامبو الشعرية، غير ما يعرفه الجميع عن رحلته المغامرة إلى إفريقيا متاجرًا في العبيد والذهب، ولتبدأ «حياته الأخرى» هناك..
لقد مات الشاعر عندئذٍ، وبدأ الأوروبي الذي تغمر ذهنه أحلام المستعمر.. هذه الصورة هي ما تكشفها لنا، ليست الرسالة تلك إلى نائب القنصل الفرنسي في عدن، والتي يشرح فيها عدوانه على العربي علي شمَّاخ، وإنما هناك فيض من تراث رامبو النثري، هو ما حاول على إبرازه - ربما كتصمىم مضاد لتصميم كولن وىلسون - الشاعر والناقد اللبناني شربل داغر، الذي ألَّف كتابًا يضمّ رسائل رامبو بعنوان «العابر بنعال من ريح»، ومنه نشرت مجلة الكرمل - وقتها - فصلًا حافلًا برسائل رامبو، مع مقدمة نقدية فنية تاريخية، ما كانت تلك الرسالة المومأ إليها، إلَّا واحدة من النوافذ الواسعة التي أطلّت بنا على «حىاة رامبو الأخرى» الغامضة والمجهولة حتى مماته سنة 1891م مريضًا بالسرطان حيث «تعنى النساء بهؤلاء العجز المتوحشين عند عودتهم من البلاد الحارة» كما تنبأ في كتابه «فصل في الجحيم».
* * * *
«لقد أدرك رامبو أخيرًا أن النجاح في دنيا الأدب المعاصر لن يواتيه قط، وأيقن أن الأدب في الدرجة التي بلغها حتى ذلك الوقت عاجز عن ترجمة أفكاره المتمرّدة العنيدة وفي ضراعة إنسان قلق ونضال طويل مع الكلمات والنبرات من خلال تشويه «كيميائية اللفظ» وبتطبيق «الاضطراب العميق الواسع الجنوني لجميع الحواس» انصب وحيه وأخلق عبقريته.... وحينئدٍ هبط إلى دنيا الواقع وألقى بنفسه في ضوضاء المدن وضجيج المحطات والموانئ».
هكذا يعبّر خليل شطا وبشير النحاس في كتابهما «رامبو رائد الشعر الحديث» منذ انطلق رامبو مبحرًا من ميناء مرسيليا، ليعمل في مقالع الصخور في قبرص، ولا يهدأ إلَّا باقترابه من الشرق، ليتحقّق باللمس والمباشرة من رؤيته الشعرية، التي قادته في قصيدته الشهيرة «المركب الثمل أو النشوان» إلى أماكن مجهولة في عالم الشرق لم يرها من قبل، وكان من بينها الجزيرة العربية وأفريقيا، إنه الآن في الإسكندرية، ويذهب بعد ذلك مفتّشًا «عن عمل في جميع موانئ البحر الأحمر، في جدة وسواكيم ومصوع والحديدة.. وجئت إلى هنا - يقصد عدن - بعد أن حاولت عبثًا ما اصنعه في الحبشة».
فهو الآن - إذن - في عدن عام 1880م حيث «لا شجرة حتى يابسة ولا عود عشب ولا حفنة تراب ولا قطرة ماء عذب، إن عدن فوهة بركان هامد قد غطيت فوهته برمل البحر، فلا يرى ولا يلمس فيها سوى الأحجار البركانية، وجوانب هذه الفوهة البركانية تمنع الهواء من الدخول، ونحن نشوي في قعر هذا الثقب وكأننا في فرت كلسي».
في هذه الفترة كانت القوى الاستعمارية الغربية تتكالب على المنطقة العربية والأفريقية، وكان التركيز على القرن الأفريقي حيث اندفع الغرب يحتفل بمشروعه التجاري «قناة السويس» الذي وفّر عليه كثيرًا من الجهد والمال.. وهو يربط ممالكه الاستعمارية في الهند وأفريقيا وآسيا، بمراكزه السياسية والبيوتات الاقتصادية في أوروبا.
وبما أن رامبو سليل تلك القوى التي ثار عليها عندما بلغ عمر الثمانية عشرة.. فلماذا لا يكون امتدادًا لها بعدما أحرق كل أوراقه وشعره وأحرق معها ثورته على السياسة الاستعمارية لبلده بعد ذلك.
إنه في بعض رسائله في عدن تراه ينتقد فرنسا وبريطانيا، ولكن من منطلق النقد الذاتي! الذي يخدم في النهاية المصالح الاستعمارية لهما في عالم الشرق.
غير أن رامبو لا يستقر في عدن، لا بسبب ما كان يمنّي نفسه بالحصول على ثروات ضخمة فقط، وإنما كان لمزاجه النفسي القلق السبب في تنقّله وتطوافه في عدد من مدن البحر الأحمر وسواحله بين أفريقيا والجزيرة العربية، فهو حينًا في تاجورة «جيبوتي» وأخرى في هرر وثالثة في الحبشة.. متاجرًا في القهوة والجلود والصموغ وريش النعام وكبش القرنفل، مقايضًا بها ما يحمل من مصنوعات قطنية أوروبية.
وعندما يتعمق في الصحراء الأفريقية، يفكر بإعداد مشروع لصيد الفيلة، كما يوضح ذلك في رسالته إلى ديفيسم، وفي رسالة أخرى ينحدر طموح رامبو في الكسب، إلى أن يستوضح من قنصل فرنسا في بيروت عن كيفية «شراء أربعة فحول من الحمير، في عنفوان النشاط، من أفضل أصل مستعمل لإنجاب أقوى بغال الركوب في سوريا وأكبرها؟ ماذا يمكن - مخاطبًا القنصل - أن يكون ثمنها وكلفة شحنها بواسطة النقليات البحرية وكفالتها من بيروت إلى عدن! المقصود بهذا - يوضح رامبو - تنفيذ طلبية للملك فيليك في شوا «الحبشة» حيث لا توجد حمير غير أصيلة، وحيث توجد رغبة بتحسين نسل البغال».
* * * *
وتنبئنا الرسائل أن رامبو لم يكن أسعد حظًّا حين هبط أرض الواقع والتجارة والعمل والبحث عن المال.. بعدما كان موضوعًا لسخرية أمه، هذه الأرملة التي حرصت بشكل شديد على المال لتواجه به الحياة الصعبة، ولكنها بالغت في ذلك إلى درجة السخرية المرّة من أي فعل جميل، لمضاء ابنها في تربية روحة الشعرية.. لقد كانت تعيب في ابنها شعره الغامض وغير المجدي ماديًّا!!
لهذا فإنه يحمل هذا التقريع أينما حلَّ، متردّدًا بين عمل وآخر من أجل تكوين ثروة ضخمة، يقاوم بها أي تقريع سواء كان من أمه أو من المجتمع.
لقد رفض رامبو نداءات العائلة للعودة إلى فرنسا، فهو يظن أنه أصبح غير معروف، وغير ذي شأن في المجتمع.. وكانه يعبر بذلك عن التحول الاجتماعي والقيمي الذي أصبح يتحدّد هناك بالمعايير النفعية المادية، ولذلك فهو يصمم تصميمًا کاملًا على القطيعة مع ماضية الشعري، بالفرار إلى صحراء أفريقيا راكبًا الجمال أو ممتطيًا الفرسان، قاصدًا ملك شوا الذي ورّد له مجموعة من الأسلحة.
ورغم تعاسة حظ رامبو في المتاجرة والكسب، إلَّا أن ضربة الحظ تواتيه أخيرًا قبل موته بسنتين تقريبًا، حين يصبح فنليك ملكًا على الحبشة بعد ثورته على النجاشي.
إن تجارة رامبو تتوسّع هنا توسُّعًا مدهشًا، تاجرًا للسلاح وموردًا خاصًا لصاحب الجلالة الجديد، فيمتلئ أكياس الذهب الذي طارد بريقه، منذ كان صبيًّا فقيرًا يأکل من قمامة البرجوازيين الجدد في شوارع باريس.
غير أن هذا الذهب حينما حصل عليه لم يمنحه السعادة كما كان يتوقّع، ولم يساعده على الاستقرار كما كان يتوخَّى لكي يتزوّج ويصبح له صبي يسهر على تربيته تربية كان تمناها لنفسه، ويعده مهندسًا له شأن وذو غنى!!
وفي رسالة مختصرة وغامضة يرسلها رامبو، إلى الصحفي الإيطالي الذي أعدَّ تحقيقًا صحفيًّا من القارة السوداء وتعرف عليه رامبو في إحدى زياراته إلى إفريقيا. في هذه الرسالة يفصح رامبو عن علاقة غامضة بامرأة، «وأنه سوف يرجعها بلا هوادة. وسيعطيها بعض التاليرات لتمضي للإبحار فوق القارب الشراعي، الموجود في راسالي إلى أوبوك حيث يمكنها الذهاب أيمنا شاءت.
ألم يكن كثير الغباء حين استقدمها من شوا».
إن رامبو كاد أن يقترن بفتاة حبشية جميلة كما تقول بعض المصادر، وقد سهر من أجل ذلك على تعليمها الإتيكيت الفرنسي!! الذي كان ثائرًا ضدّه، وفي نفس الوقت يصرّ على تلقينها مبادئ الدين المسيحي، ربما تكون هي المعنية في رسالته هذه.
* * * *
أما إعلان القطيعة مع ماضيه الشعري ذاك، الذي ثار إبانه على التراث المسيحي، فقد كان ثورةً أدان فيها فكرة الخطيئة، صارخًا من أعماق نفسه أنه ينفض يده من كل أخلاق!
«لم تكن السماء حينذاك محجوبة بالغيوم بل كانت تتلألأ بنور الوثنية المجيد».
«متى نذهب وراء الشواطئ الرملية والجبال، نحيي مولد العمل الجديد والحكمة الجديدة وهرب الطغاة والأبالسة ونهاية الخرافات ونعيد في الطليعة الميلاد على الأرض». نعم، إنه يتزامن مع كرة حقيقي للعرب المسلمين.
فرامبو الذي أخذه شعره إلى مناصرة الوطنيين في كومونة باريس الشيوعية الشهيرة، نجده في عدن يتعالى على البسطاء من أمثال علي شمَّاخ بل إنه يصدر حكمًا تعميميًّا حادًّا، بعدما تركهم «أي الوطنيين» إلى تاجورة، بأنهم بلهاء سافلون!!! متمنيًا في إحدى رسائله، أن يرى عدن مطحونة تمامًا وهي المكان القذر الذي يصفه - دومًا - بأقذع وأبشع الأوصاف.!!!
أما الحبشة فمناخها طيّب وسكانها «مسيحيون» مضيافون!!.
إن مشوار التوبة من الشعر ينتهي عند رامبو - على عكس أبي نواس والسياب - بالقطيعة مع الإنسان!
على ضوء هذا نتوصل إلى سبب خلافه الحقيقي مع العمّال العرب البسطاء، الذين وجدوا في إهانته لزميلهم علي شمَّاخ، الفرصة في الالتفاف ضده، كرمز للاستعمار.
وفي نفس المنوال، وانسجامًا مع وضعه الجديد في «حياته الأخرى» نجده يكتب التقارير السياسية إلى الجمعية الجغرافية، وذلك بهدف تعريف القوى الاستعمارية في بلاده بمواقع الخير والاستراتيجيات والتجارة والذهب، في عدن وفي القرن الأفريقي الذي عاش فيه.. وحقّق له أحلامه في امتلاك الذهب.
هل لهذا استحق رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مطالبة عائلة آرثر رامبو نقل رفاته، من مقبرة عائلته في «شارل فيل» إلى مقبرة عظماء فرنسا في «البانتيون»؟