”قصة قصيرة“
خالي إبراهيم
كانت مستلقية على السرير جدتي ”ود“ عندما رن في ذلك اليوم الذي لن ننساه جميعنا هاتف المنزل، نهضت لتقوم برفع سماعة الهاتف ليصل إلى مسامعها صوت خالي المغترب منذ عشر سنوات والمنقطعة عنا أخباره منذ ذلك الوقت وما أن قال لها ”ألو“ وسمعناها تصرخ من؟ ”إبراهيم“ حتى تحلقنا جميعنا حولها ورأينا دموعها تنحدر من على وجنتيها وسمعنا خفقات قلوبنا جميعا حينذاك؟
كنت في ذلك اليوم طفلة صغيرة لم تتجاوز العشر سنوات ولكني كنت أدرك كل ما كان يدور حولي وأتلمس مشاعر الجميع خصوصا في قصة خالي إبراهيم وغربته عن البلاد التي خرج منها وأنا في عمر الأشهر، إذ كبرت وكبرت معي تلك المشاعر وكبر معها أمل اللقاء بخالي المغترب.
ذلك اليوم الذي صعق الجميع منذ أن رن الهاتف بصوته أوقد في داخلي شعور تحقيق الأمنيات وحقيقة القصص المروية عن الأمهات والجدات، ها هو خالي إبراهيم الذي فقط أسمع باسمه بين الحين والآخر وتروى لي قصص تحركاته في بيتنا هنا وهناك وتمازحه خالاتي وأمي وجدي وجدتي، وعن مرحه مع أبناء الجيران وعن ذكريات طفولته الرعناء في شوارع حارتنا القديمة وعن الكثير من الذكريات ها هي اليوم تتراءى لي حقيقة ليست مجرد قصص تروى.
خالي إبراهيم قرر أن يعود!
أهي حقيقة أخرى تضاف لسجل الحقائق التي بت أعيشها؟ ربما
اليوم الأحد الثاني والعشرون من مارس في العام 1995 جدتي ”ود“ وأمي ”هيفاء“ وخالاتي ”سمر“ و”فاطمة“ وأريج ”وأنا الطفلة الوحيدة“ رند" في هذه العائلة الصغيرة في قاعة انتظار القادمين من السفر في مطار الملك خالد الدولي في الرياض ننتظر خالي.
أوصلنا والدي بالسيارة وذهب ليركنها في مصاف السيارات ثم عاد لينظم إلينا في القاعة، أعيننا ترتقب جميع الذين يخرجون من باب كان يعقبه ممر طويل قادم من طائرة لا نراها إلا أننا نعلم أنها قادمة من مدينة ”فرانكفورت“ الألمانية وعلى متنها ”خالي إبراهيم“ الذي لم تراه العائلة منذ عشر سنوات مضت.
كنت أتصوره متوسط الطول أسمر البشرة ذو شعر أجعد وكثيف ولا أعرف لماذا ارتسمت هذه الصورة في بالي إذ لم يريني أي من أحد في عائلتي صوره البتة ولا أعلم ما السبب، جلس الجميع على مقاعد الانتظار إذ طال بهم الوقوف إلا جدتي لم تجلس فقد كانت واقفة طوال الساعتين التي كنا ننتظر فيها هبوط الطائرة، قمت من على مقعدي ووقفت مباشرة بمحاذاتها وأمسكت يدها، لم أشعر ونحن في عز الصيف ببرودة أكثر من برودة يد جدتي حين أمسكت بها، وما أن رفعت عيني لأرى وجهها وجدت عينان ذبلهما بعض من الدموع التي لم تنحدر بعد.
بقينا على هذه الحالة لأكثر من ربع ساعة فوق الساعتين الأخيرتين ومن ثم أطل علينا من بعيد شاب في مقتبل العمر عرفت أنه خالي إبراهيم من شهقة جدتي وأمي وخالاتي جميعهم في وقت واحد ونداءاتهم بصوت مرتفع ”إبراهيم، إبراهيم“
العناق الذي اشتد حتى وصل إلى الأرض بين خالي وجدتي أبكى الكثيرين من المارة بالقرب منا فضلا عن بكاء خالاتي وأمي ورأيت بعض من لمعة الدموع على وجنتي والدي.
ها قد عدنا إلى المنزل الذي زيناه على شرف وصول خالي والذي كانت يده بيد جدتي لم يتفارقا أثناء المشوار من المطار إلى المنزل البتة، وما أن دخل الجميع حتى وكأني رأيت أغصان الربيع تدب حياة بين أثاث المنزل وبالأزهار تتفتح هنا وهناك ملونة بألوان قوس قزح، أوحى لي هذه الصورة ابتسامات خالاتي وفرح أمي وعمق مشاعر جدتي وصوت ”الزغاريد“ الذي لم ينفك أبدا إلى ما قبل وقت نومنا في ساعة متأخرة من ليل ذاك اليوم.
وبنما كنت أنظر الى هذه اللوحة الجميلة في منزلنا قطع خالي حديثه مع أبي ليصوب نظراته إلي قائلا: ابنتك بلا شك أليس كذلك؟
أجبته أنا على الفور: نعم أنا هي ”سندس“ يا خالي أنا أعرفك وأنت لا تعرفني.
ابتسم لي ثم قرب وجهه مني وهمس لي في أذني سوف نتعرف على بعضنا البعض لاحقا.
أووه: نسيت أن أصف لكم اللوحة الجميلة التي ارتسمت في منزلنا منذ لحظة دخول خالي إليه فإليكم الوصف
لم تكن الزغاريد قد دخلت منزلنا حتى عاد خالي
لم أرى خالاتي بهذه الحيوية إلى عندما خالي
لم تبتسم أمي بهذا المقدار إلا عندما عاد خالي
لم يهمس في أذني أحد ويعدني بأوقات جميلة قادمة إلا عندما عاد خالي
ولم أرى في عشر سنين مضت جدتي ”ود“ تلبس غير الأسود إلا عندما عاد خالي.
.
.
.
«قد تبهت اللوحات أحيانا من ألوانها في الوقت الذي باستطاعتنا إعادة تلوينها»