آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

التعليم ثقافة أم تجارة؟!

جهاد هاشم الهاشم

لا شك أن التعليم هو العامل الأساس في تقدم الأمة وتشييد الحضارات. والتي لا يتمّ بناؤها إلا ببناء الإنسان وتثقيفه وتنمية قدراته. فحياتُنا ماهي إلا عبارة عن تمازج بين العلم والعمل، ولا مكان للتخادل فيها. فاكتساب المعارف والمعلومات بمختلف أنواعها لا يتحقق إلا بالمثابرة والقراءة الواسعة والتدريب المستمر الذي يستفيق بالأمة. ففي التعليم خدمات جمّة للعباد والبلاد التي ننتمي لها منذ نعومة أظفارنا حتى عروج أرواحنا إلى بارئها؛ فيظفر الإنسان المتعلم بالإجلال والاحترام والرفعة في القَدر والمكانة، ويكون هذا سببه التحصيل المعرفي، فيرفع مقام الفرد بين الناس بزيادة المعرفة، والخوض في سماء المجد ومناهل العلوم المتعددة. وحتما سيحظى بعدها بمكانة مرموقة عالية تليق بآدميته التي منحها الله - سبحانه وتعالى - له كمخلوقٍ كرمه ربه ورفع قدرة بنور العلم. يقول تعالى: ﴿‏‏يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ «المجادلة‏: ‏ 11‏».

وللعلم أهمية عظمى عند بني البشر قاطبة؛ فهو البوصلة التي تقود الفرد نحو النور والتألق والإبداع في سماء المعرفة. ولا يوجد مايضاهي العلم في الأهمية والمقدار، وهو بطبيعة الحال مطلب مُلحٌ للغاية، ولو نسجنا كل الحروف وانتقينا الكثير من الكلمات لما نُكنه بداخلنا تجاه التحصيل العلمي وأهميته؛ فلن نستطيع إعطاءه مكانته أو نوفيه حقه كما يستحقه.

وعندما نبحر في تتبع حضارات الأمم على مر العصور والأزمان، نجد - بما لا يدع مجالا للشك - وبدرجة لا يختلف عليها شخصان؛ أن جميع المجتمعات التي نهضت بشخوصها وارتقت واعتلت ذروة العلياء؛ لم تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم وسمو ورفعة، إلا بعد أن اتخذت من العلم طريقا حتميا للوصول للهدف المنشود وتحقيق المصالح العليا للبلاد.

وكل ماسبق لايمكن له أن يتحقق دون الاهتمام بالعنصر الرئيس وهو الإنسان. نعم كيف لا وهو من يبني ويعمر! ولكن مقصدنا هنا ليس بناء وتعمير المباني والقصور، إنما البناء الحقيقي هو بناء العقول وترسيخ العلاقة والثقة بالله - جل في علاه - والتأكيد على العنصر الأهم وهو الوازع الديني والأخلاقي، فتقوى الله ومراقبته في السر والعلن هما الدعامتان في استقامة العبد وتقويم سلوكه، فكلما كان الفرد مرتبطا بالله - تبارك وتعالى - ارتباطا يليق بجلال وجه الكريم، ناهيك عن الاستزادة من شتى العلوم المختلفة وفي جميع المجالات؛ كلما أعددنا جيلا واعيا مثقفا متزنا يساهم بشكل تلقائي في نمو وازدهار البلاد والدفع بها نحو مكانة أفضل.

ومن الخطأ حقيقةً حصرُ التعليم ومايتبعه من طرق التحصيل المعلوماتي وتلقي الدروس واستيعابها، وماتترتب عليه تلك العملية الذهنية للكم الهائل والزخم المتراكم نتيجة تداخل عميق لما يتلقاه الطالب من مقررات داخل فصله الدراسي، ولكن العملية التعليمية للناشئة من أبنائنا وبناتنا يجب أن تصبح مشروعا تكامليا تتبناه عدة أطراف معنية، ويبدأ أولا من المنظومة الصغيرة وهي «الأسرة» ويكون ذلك من خلال اهتمام الأبوين وتهيئة المناخ المناسب والهادئ داخل المنزل، وذلك بتوفير كل مايلزم لاكتمال استقبال المعلومة بشكلها الأمثل؛ ومن ثم ننتقل للمنظومة الأكثر شمولا وهي «المؤسسة التعليمية» بجميع ملحقاتها من مدارس ومكتبات ودور أبحاث ومعاهد، وهذه العوامل مجتمعةً يجب أن نسعي لتوفير كل مايتطلبه الأمر من تذليل كل الصعاب وخلق أجواء تساعد على بناء جيل واعٍ مُدركٍ للواقع المُعاش؛ وبالتالي استثمارها الأمثل والحقيقي هو تمكين الأجيال الصاعدة من فلذات أكبادنا بسلاح العلم والثقافة والمعرفة، وهذا لن يتحقق إلا بتضافر جميع الجهود والتنسيق فيما بينها، فهذا هو المشروع الحقيقي والأكثر نجاحا وأعظم فعالية لبناء إنسان راقٍ ووطن نفخر به بين سائر الأوطان، يتمتع بالقوة والاقتدار ويكون شامخا بين رايات العز والانتصار؛ لذا يتحتم علينا - كآباء وأمهات ومسؤولين - من معلمين ومشرفين وكل من يعمل في قطاع التعليم أن ينظروا للتعليم على أنه «ثقافة» ضرورية يُستفاد من خلالها لتنمية ورفع شأن بلادنا الغالية، وأن نرفض المبدأ المتمثل في أن التعليم هو عبارة عن الحصول على وظيفة برواتب مجزية! نعم لاشك أن طلب الرزق مباح شرعا، بل هو مطلب في غاية الأهمية لتوفير حياة كريمة لكل مواطن، ولكن الأهم من ذلك هو تغليب مصلحة الوطن على كل مصلحة أخرى وأن تُسخَر جميع الأولويات وبكل ما أوتوا من قوة وعزيمة للوصول إلى مانرجوا تحقيقه ونصْبوا إليه.