مزاجية الموت
يجلس على العتبة يستند إلى الباب الحديدي. الباب الذي مر من خلاله مئات الجثث...
يأخذ نفسا متقطعا فرئته التي أثقلها «المارلبورو» تحتضر ولم تعد تقوى على أخذ نفسا طويلا...
عيونه الغائرة التي تكاد تغوص أكثر إلى قاع جمجمته لمحت طيف أحدهم... «وأخيرا وصل الجحش» همس بتلك الكلمات وهم بنفسه كي يفسح المجال للرجل القادم إنه «أبو علي»... وصل الأخير ولم يعر انتباها «لسعيد» للرجل المثقل بالهموم. وضع يده في جيبه وسحب مفتاحه وكأنه يفتح خزانة بنك...
صوت الباب الصدئ يخرج أصواتا موسيقية كتلك الأصوات في فيلم ”دراكولا“ عندما ينهض من التابوت.
دخل «أبو علي» قائلا بنبرة جافة: أدخل...
ومرة أخرى همس «سعيد» في قلبه قائلا: شكرا أيها الجحش.
ثم توقف فجأة وراح يحدق في ذلك المرتفع الذي يرتكز في المنتصف كما ارتكاز «أبو الهول» في صحراء الجيزة.
مرة أخرى يأخذ نفسا متقطعا لا يوحي بأنه سوف يشاهد شروقا آخر. ولكن مع ذلك النفس كانت رئته قد امتلأت برائحة الحنطة التي تشبعت في كل بقعة من تلك الغرفة.
اقترب أكثر من ذلك المجسم ووضع يده المجعدة على أطرافه وراح يمسح ويربت عليه كما لو أنه في محل أثاث. نظر إليه «أبو علي» بازدراء وسرعان ما لمح ”سعيد“ تلك النظرة فرد قائلا: سوف تراني هنا عما قريب أستلقي عاريا في حال لم تمت قبلي...
لم يعر الأخير أي انتباه لما قاله ”سعيد“ وكأن الأمر لا يعنيه. ثم بدأ «سعيد» يفتح أزرار ثوبه ويبدأ بخلعه. وإذا ب «أبي علي» يقول متفاجئا: ماذا تفعل؟... ثم رمي سعيد بثوبه بعيدا وراح يستعد لخلع فانيلته قائلا بسخرية: احضر الزيت وقم بتدليك ظهري.
وبدأ «أبو علي» بالتوتر قائلا: اسمع يا ”سعيد“ أنت تهدر وقتي فاليوم جمعة وقد تركت أبنائي لأجل طلبك الغريب. ونظر إليه «سعيد» وقد ارتسمت عليه علامات الاستفهام ثم صعد على ذلك المجسم إلا أنه قفز من برودة الرخام وعاد ليستلقي تدريجيا. وفجأة سمع صوت من الخارج يقول: أبو علي.. من الميت؟ وضحك ”سعيد“ ووجه نظره نحو «أبو علي» وهو يقول: إنه يقول لك ”أبو علي“... ألا يعرف بأنه منذ أن كنا في الابتدائية واسمك هو ”الجحش“. فتوتر ”أبو علي“ وصرخ قائلا: اخرج من هنا فورا. هيا اخرج. وبكل برود رد سعيد: وإلا ماذا؟.. اخرج أنت واذهب إلى أولادك. وبدأ «سعيد» يأخذ رأسه نحو اليمين والشمال وكأن يشفق أو يتحسر على شيئا ما.
ثم بدأت عيناه تذرف دموعا على خجل إلى أن بدأ ينتحب. ثم دخل الرجل الذي كان يسأل قبل لحظات وقد ارتسمت عليه علامات غريبة قائلا: أستاذ «سعيد» ماذا بك؟ هل تهيأ نفسك للموت؟... فرد سعيد: اشتقت لزوجتي وولدي.. عشرون عاما مضت وأنا أستعطف الموت كي يأخذني ولكنه ظل يعاندني.. رغم رئتي المسرطنة..
تخيل «سعيد» زوجته «أم حسن» وابنه «حسن» عندما استلقيا هنا في يوم واحد وفي ساعة واحدة.. ثم تنهد وقال: عجبا منك يا موت تأخد من يعشق الحياة وتغض النظر عن من يشتاق للقياك. واردف قائلا: كم أرغب بأن يراني هذا ”الجحش“ عاريا ويغسلني بالماء ويضع حنطته ويلف جسدي بالكفن.