زيف السمعة
وكيل وزارة سابق مدعوا لإلقاء كلمة بمؤتمر حافل.. على منصة الإلقاء ترك الكلمة التي أعدها جانباً وترجل قوله وهو يرتشف القهوة في كوب ورقي: ”أنا وأنتم لا نستحق أكثر من هذا الكوب الورقي!“.. قبل عام كُنت وكيل وزارة وحين حضرت لأُلقي كلمة بنفس هذا المكان سافرت على الدرجة الأولى وحين وصولي كان أحد الأشخاص باستقبالي وقام بكل الترتيبات نيابة عني، اقلني بسيارة فارهة وانهى ترتيبات غرفة الفندق واستقلني باليوم التالي إلى هنا وصنع لي القهوة بِكوبٍ خزفي جميل.. هذا العام وبعد التقاعد سافرت على الدرجة السياحية وقمت بجميع الترتيبات بنفسي دون أن أجد من يساعدني في حجز السيارة والفندق وحضور المؤتمر، وحين دخلت إلى هناء سألت أحد المنظمين إذا كان يوجد هنالك قهوة، فأشار لي وأرشدني إلى موقع مكينة القهوة لأقوم بإعداد قهوتي بنفسي في كوب ورقي.
الكوب الخزفي وكل الزخم الذي كان من حولي كان لمنصبي وليس لشخصي.. للمسمى الوظيفي التابع لي وليس لإسمي الذي أُكنى به، وهكذا نحن جميعاً على الصعيد الشخصي لا نستحق أكثر من الكوب الورقي.
نحن في هذه الحقبة الزمنية ومنذ نعومة أظفارنا نشأنا على تخمة من الحفاوة بالتكريم والاحتفال فمنذ المراحل التمهيدية إلى المدرسة والجامعة وإلى قطاع الأعمال يتم بعناية فائقة وضع معايير للتصنيف ودرجات للتفوق ونجوم للتميز، يتم من خلالها توزيع الشهادات والجوائز بزهوٍ وإعلام مبالغ فيه وبفترات متقاربة جداً.. وأصبحنا نخترع المسابقات ونرصد الجوائز لكل ما يمتد منا بعد هذا إلى الاهتمامات والهوايات والمهارات من قبيل حفظ القرآن الكريم.. التصوير.. الطبخ.. الجمال.. قيادة الدراجات.. العمل التطوعي.. البحوث..... والقائمة تطول. ولو نظرنا بتمعن لوجدنا مضامير السباق هذه أصبحت حرفياً بكل جوانب حياتنا.
وهذا الأمر في ظاهرهِ أمرٌ حسن ومشجع.. ولكنه من دون قصد أصبح يبني معايير قياسية وإطارات مثالية لكل شيْ من حولنا، ونحن في وسط هذا السباق المحموم آمنا بأن هذه الأسس والمعايير صحيحة وأنها الرمز النبيل للمثالية والكمال، واصبحنا نلهث خلف الوصول للكمال ونحث أبناءنا وأنفسنا لأن نتبع هذه المعايير ونبذل قصار جهدنا لرفع اسمائنا للمراتب المتقدمة فيها وحصد ما يمكن من ميداليات وجوائز.
والحقيقة أن هذه المعايير القياسية في واقعها غير صحيح، ولكن هذا ليس موضوع مقالي اليوم، حيث أود التطرق في زاوية ضيقة للزهوُ اللا شعوري الذي تصنعه هذه الأحداث حين ترفعنا لمنصات التتويج واليقين الداخلي الذي يعترينا بأننا الفئة المختارة المميزة والنبيلة وإن باقي الناس رُعاعٌ برابرة، أصبحنا بمبالغة متقنة نتصور أننا الأفضل وينتابنا شعور زائف من الشعور الزائد بالاستحقاق، ونبدأ بشكل لا نشعر به برفع أنوفنا ونُعاظم غرورنا وننظر بدونية للآخرين، ونؤمن بوجود الطبقية بين أفراد المجتمع وأن موقعنا في الطبقات الماسية العليا. ننسى مما خُلقنا ولِمَّ، ونتغافل عن مدى حقارتنا ودنو الحياة التي نعيشها، نتجاهل كل القيم التي تربينا عليها والتي تتعارض مع الأنفة والكبرياء الذي تملكنا.. وتمضي بنا السنين ونحن على هذا الحال وقد نفارق الحياة ونحن على حالنا وعلى قناعاتنا الضحلة، أو إذا رحِمنا ربي التفتنا لذلك متأخراً في مرحلة من مراحل النضوج، وربما نحتاج لسنين من العمر كما كانت لوكيل الوزارة لنعي ببصيرة واضحة بأن كل هذا ما هو إلا حقيقة زائفة لا نستحقها.
يقول الإمام زين العابدين في دعاء مكارم الأخلاق ”اللَّهُمَّ وَلا تَرْفَعْنِي فِيْ النَّاسِ دَرَجَةً إلاّ حَطَطْتَنِي عِنْدَ نَفْسِي مِثْلَهَا، وَلا تُحْدِثْ لِي عِزّاً ظَاهِرَاً إلاّ أَحْدَثْتَ لِي ذِلَّةً بَاطِنَةً عِنْدَ نَفْسِي بِقَدَرِهَا“ - فهل أصابنا العور حين نربي أنفسنا وأبنائنا في هذه الحقول؟ نقرأ ولا تقربوا الصلاة ونغض النظر عن باقي الآية، أم أننا تربينا وتعودنا على الطبقية المجتمعية وأصبحنا نركن لما تصبو إليه أنفسنا في منطقة الرفاهية والراحة والثراء ونبتعد عن كل ما ينغص راحتنا ويسبب لنا الألم والتعب حتى وأن كان على حساب القيم الأصلية التي أوجدها الله سبحانه فينا بالفطرة.. نعم للأسف نحن كذلك.. نضع أنفسنا في الطبقة الاجتماعية التي تناسبنا، ننظر لمن بالطبقات الأدنى بازدراء ودونية ونبقي أعيننا شاخصة للأعلى ونلهث بكل ما أوتينا من فساد وخداع لنرتقي بأنفسنا إلى طبقات أعلى أكثر خِواءاً وزيفاً.. نمر على ”إن أكرمكم عند الله أتقاكم“ مرور الكرام ونتغافل عن ”من تواضع لله رفعه“ ونكف أبصارنا عن ”الناس إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق“ كما ونغلق أسماعنا عن ”الدين المعاملة“.
يقول وليام شكسبير ”السمعة أكثر الخدع زيفا وبطلانا، فهي كثيرا ما تكتسب دون وجه حق وتُفقد دون وجه حق“ وحقاً علينا أن نؤمن بأن لا شي يميزنا عن غيرنا.. بل وبيننا وبين أنفسنا لِزاماً أن نقتنع بأن كُل الآخرين افضل منا درجةً وارفعُ منا مقاما لدى الخلق ولدى الخالق.
ربما أكون مخطئاً لكن إذا كان ولا بد من استمرار مضامير السباق التي ذكرنا في حياتنا لنجني ما يعكس علينا ايجاباً من خلق روح المنافسة الشريفة والتقدم والتطور، حريٌّ بنا أن نعيد النظر قبلها في منهج التربية في ”النظر والتعامل مع الآخرين“، وأن تكون الجوائز بعيداً عن الاعلام المزيف مغلفة برسالة مذكورٌ فيها: ”نبارك لك ما مَنَّ الله عليك من سعة في العلم والقدرة والمهارة، ونرجو أن لا تنسى الرسالة التي كلفك الله بها لخدمة خلقه والتفاني من أجل الآخرين قبل نفسك بكل حُب وتواضع*“
وفي أسف الشهادة وبجانب النجمة الصغيرة تُكتب ملاحظة بأنه * سوف يتم سحب هذا اللقب في حال أصابك الغرور وأصبحت تتعامل مع الناس الآخرين بشيء من التعالي والطبقية.