آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

لماذا استمر عهد السامري؟

محمد حسين آل هويدي *

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم * بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ سورة البقرة - 93

يعيب البعض «بل الكثيرون» الرجوع للقرآن. وهناك نوعان من هؤلاء: نوع احتكر القرآن لنفسه وثبته برأي رجاله «وهؤلاء قوم متحجرون وجدوا أنفسهم في هذا الزمن بالخطأ»، ونوع آخر لا يرى صلاحية القرآن لهذا الزمن «وهؤلاء ظنوا أن النوع الأول - أي المحتكرين - هم من يمثل القرآن على الأرض». بالرغم من كل دراساتي وأبحاثي وقراءاتي، لا أزال أستفيد من القرآن وأرى فيه الحكمة في مواضع كثيرة. وكذلك أستشعر أنه كان متقدما كثيرا على زمانه ومكانه. وأنه كتاب عظيم جدا. فلو أتى بهذا الكتاب بشر، فهذا البشر خارق للعادة. ومن الأولى أن يُتّخذ قدوة يحتذى بها. هذا رأيي من قبل ومن بعد ومن الصعب تغييره إلا بالدليل القطعي، وهذا الدليل مفقود، ولا أظنه سيوجد. هناك من يشكل على القرآن، وأنا متابع لهذه الإشكالات، ولكنني لم اقتنع بها لأنها متحيزة وخارجة عن الموضوعية وتؤوّل النص على حسب أمزجتها أو خدمة لأجندتها. الباحث المنصف والعقلاني لا ينظر لمادة البحث من زاوية واحدة. أي بحث يأتي بهذه الصورة يعتبر لاغ ولا قيمة له. عندما ننظر للقرآن من زاوية سلبية فقط، فهذا أبعد ما يكون عن الموضوعية، وكأن هؤلاء الناقدين نسوا بأن العرب حكموا العالم القديم من المحيط إلى المحيط بسبب القرآن، ولولاه ضاعت اللغة العربية التي يتشدقون بها.

لا يزال القرآن كتابا قيّما ومفيدا في التعاملات الإنسانية والأخلاقية. هل كل ما في القرآن يناسب هذا الزمن؟ قطعا، لا. هناك حوادث ظرفية لم تعد محل ابتلاء في هذا الزمن، مثل المعارك التي خاضها الرسول ﷺ والأحداث التي مرت عليه من قحط وجوع ورخاء، وكذلك أيضا تشريعات الرق وملك واليمين. هذه أمور لا يمكن فرضها على هذا اليوم ومحاولة إحيائها مجرد عبث. أيضا، القرآن نفسه غيّر الأحكام «أحكام الصيام مثلا» حسب الظروف في فترات قصيرة جدا من صدور الأحكام، وهذا أكبر مؤشر أن القرآن وضع اللبنة الأساسية للناس ليختاروا ما يناسب ظروفهم بعيدا عن تدخل السماء في كل شاردة وواردة. نحن خلفاء الله في الأرض وأمنّنا عليها، وعلينا أن نصون الأمانة باختيار ما يناسب ظروفنا لا فرض ما ناسب من عاش قبلنا. إن لم يتعلم الإنسان من مدرسته ومعلميه ما يكفي ليشق حينها طريقه في الحياة معتمدا على ذاته فهذا مجرد إنسان في الشكل لا في المضمون، وذلك لأن الإنسان كيان صاحب إرادة حرة وهبها الله إليه «وأما بنعمة ربك فحدث». أكثر الناس يرفضون هذه الحرية؛ وهذا شأنهم طبعا، ولكن عليهم ألا يفرضوا جمودهم على الآخرين. يكفيهم أنهم ظلموا أنفسهم، وعليهم ألا يظلموا الآخرين ليتحملوا أوزارهم ووزر غيرهم. هؤلاء جعلوا القرآن عضين ومجرد كتاب بركة ولقلقة لسان لا تتعدى الحنجرة، ودليل ذلك وضعهم الحالي على وجه البسيطة، والبعرة تدل على البعير.

ثلث قرآننا الكريم يتطرق لبني إسرائيل. بنو إسرائيل مؤمنون، ولذلك عليهم مسؤولة. وليس كل بني إسرائيل مجرمين. إسرائيل يعقوب؛ ابن نبي، وحفيد نبي، وأبو نبي، وجد الأنبياء. ولو لم يجد الله فيهم الخير لما اختصهم من دون الناس، بل وفضلهم على العالمين واصطفاهم من بين البشر. واليهود عبارة عن جزء من بني إسرائيل كان آباؤهم يريدون قتل أخيهم يوسف. يركز القرآن على قصص بني إسرائيل لنتعلم ونستفيد منها، والحكمة ضالة المؤمن.

وقصة السامري من أهم الأحداث التي مرت على بني إسرائيل. كان السامري عالما من علماء بني إسرائيل. وكان ثقة موسى . كان السامري ذكيا وداهية، ولم يكن شخصا غبيا. لاحظ السامري أن الجماعة يريدون عبادة أصنام بوجود موسى معهم. أضمر السامري الأمر في قلبه. واستغل الفرصة حينما ذهب موسى للقاء العزيز الجليل. انقلب السامري وبنو إسرائيل على هارون وكادوا أن يقتلوه، وهذا الأمر لم يحدث مع هارون فقط، معه ومع كل من يمثله على الأرض. السامري أراد استغلال رغبات بني إسرائيل لصالحه للحصول على الحظوة والزعامة والمال والذهب؛ وعلى الأرجح، كان السامري عالما بسخافة رغبة الجماهير.

يعتبر السامري أكبر مرتد في تاريخ الأديان الإبراهيمية. وجريمة بني إسرائيل الذين ساندوه كانت نكراء بما تعنيه الكلمة. بكل بساطة، كانوا يريدون تفصيل دين يناسب أهواءهم وينسجم مع رغباتهم. الأنبياء من بني إسرائيل لم يرضخوا لهذه الرغبات، وعليه فريقا كُذِّبوا وفريقا قُتِلُوا. بالرغم من الارتداد المعاكس للسامري، إلا أن الله لم يأمر بقتله لأنه ارتد، ولكن جعله عبرة لمن لا يعتبر. وبالرغم من الجريمة الشنعاء التي ارتكبها بنو إسرائيل إلا أن قلب موسى ظل معهم يريد لهم الخير والصلاح. ولو انتصر السامري على موسى لأصبح السامري رمزا مقدسا وقدوة لبني إسرائيل ولاتّبع نهجه بنو إسرائيل إلى هذا اليوم ولم يحيدوا عنه لأنه فصل الدين على حسب رغباتهم الباطلة.

من خلال هذه القصة، وأُخَرٍ مشابهات لها، نعلم أن الأقوام لا تستمع لنصائح أنبيائها، وكذلك تنبذ وتقصي وتستضعف أوصيائها. الناس تستمع لمن يحقق رغباتها، لا لمن يطلب الحق. التاريخ أكبر دليل على أن طلاب الحق ينفون أو يقصون أو يستضعفون، وفي النهاية يقتلون. وهذه أدلة قطعية على أن الحق في واد، وأكثر الناس في واد آخر. وهذه الجملة من أصدق ما يصف حال الناس: ”إِنَّ النَّاسَ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ‏ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ“.

في حال بني إسرائيل، كان هارون يقول لهم: ”قال كليم الله“، وهم يردون: ”قال السامري“. وعلى هذا النسق يستمر من حدا حدو بني إسرائيل إلى جحور الضبان، حيث تقول لهم: ”قال الله“، فيردون: ”قال فلان“. وعليه، هم جماعة أشربوا العجل في قلوبهم بحيث لا يزالون متمسكين بوثنيتهم ولا يتبعون إلا أقوال أشباه السامري.

نحن عندنا خلل كبير ينخر في جسد الأمة. الاعتراف بهذا الخلل سيقلص ثلث المشكلة. وتحديد سبب الخلل سيقلص ثلث آخر. ومنها نتطلق نحاول حل ثلث مشكلة بدلا من مشكلة متكاملة عويصة. دليل وجود الخلل ما حدث لبني إسرائيل إذ ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله وتاهوا في الأرض. والتيه لا يعني ضلال الطريق الفعلي، ولكن ضلاله المعنوي. عندما تكون في مؤخرة الركب، فهذا دليل ضلال الطريق المعنوي، وهذا ما أراد الله لنا أن نتعلم من قصة السامري. بعض أن نعترف بوجود الخلل، نذهب لتحديد مسبباته. سبب الخلل أنفس الناس والسامريون الذين فصلوا دينا يناسب هذه الأنفس الخربة طلبا للحظوة والنفوذ وجمع أموال الناس بالباطل. وبما أن أكثر الناس اتبعوا ما خط لهم السامري، فهم يرفضون قطعا هذا القول لأنه يتعارض مع ما قاله المقدس السامري. فتقول لهم إن الله ورسوله والدين لم يأمروا بقتل المرتد بدليل ما حدث مع السامري، سينزعجون كثيرا لأن قتل المرتد شرع سَنَّهُ السامري ليتخلص مِمَن يعارضه من المؤمنين. تقول لهم إن الله حكم بالجلد على الزاني، فيصرون على الرجم «الشريعة التي سنها السامري»، ويأتون بأسباب واهية لترجيح كلام المخلوق حتى ولو يكون في ذلك نكران وجحود لقول الخالق. الله يقول شيئا، وهم يريدون نسف قول الله بحادثة رددتها ألسن في أحسن الأحوال واهمة، هذا إن لم تكن تتعمد التقوّل على الأنبياء، كما تقوّل النصارى على أن عيسى أمرهم بعبادته.

هل نحن يهمنا تطبيق كلام الله أم كلام بشر، حتى وإن كانوا صالحين؟ قول الله يناسب جميع الأماكن والأزمان، والكل يعرف أن الزنا فعل قبيح، والله يعلم أن يوما ما سيأتي على البشرية تتغير فيها الأحكام والأفعال والتفكير، ومن المؤكد أن أمرا مثل الرجم لن يناسب إطلاقا حتى وإن أصر عليه السامري وأتباعه. عقاب الزاني أمر تنص عليه القوانين ويقبله العقل السليم، ولكن ليس بالصورة الشنيعة التي سنها السامري. الله فقط أراد عقابا خفيفا ليعرف الناس الزناة وكي يهين كرامتهم لأنهم أهانوا كرامة آخرين بممارسة السفاح مع محارمهم. القضية رد اعتبار وعبرة، وليست انتقاما تقشعر له الأبدان.

ما جعلني أترك أموري المهمة لكتابة هذه السطور، القهر الذي أصابني. في بين وقت لآخر، يتواصل معي بعض الآباء بشأن انحراف أولادهم «ذكرانا وإناثا» وأنهم وصلوا إلى طريق مسدود بحاجة إلى تدخل خارجي لتخفيف الضرر على الأقل. هذه القضية تتكرر كل يوم. ولكن ما الأسباب؟

السبب في ذلك السامري الذي سن شرائعا لا تناسب عقول هؤلاء الشباب. الشاب اليوم واع ومطلع، ولم يعد ذلك الأمي الذي يصدق كل ما يقال له من قصص ألف ليلة وليلة. ما يحدث للشباب مشكلة، علينا الاعتراف بها. وما يحدث لهم مجرد عرض بسبب مرض عضال ينخر في جسد الأمة يسمى ”مرض السامري“.

عموما، إن أردنا أن يعود إلى حياضنا شبابُنا، فعلينا أولا أن نحطم العجل وننبذ السامري. وإن عجزنا عن هذا الأمر، وأظننا عاجزين، فإن الحال لن يتغير. وحال لسان البعض: فلتسقط الأمة في سبيل أن يبقى عهد السامري ويستشري مهما كانت الأثمان. والسامري ومن حدا حدوه لا تهمه الأمة ولا توصيات موسى ولا وصاية هارون .

لماذا الشباب بالذات؟ الشباب هم الذين ناصروا الأنبياء، وليس من اشتد عودهم على الشرك الذين حاربوا الأنبياء ونبذوا شبابهم، حتى صار الأب يقاتل فلذة أكباده في سبيل أن يرجعهم للشرك. الشباب هم الذين يريدون تغيير الحال للأفضل. الشباب الذي زار بقاع الأرض وملك الدنيا في جهاز في حجم كفه يحمله معه أينما ذهب. فعندما يرفض الشباب عهدا، فاعلموا أن الخلل ليس فيهم، بل الخلل في ذلك العهد. ولولا الشباب، ما بقي عهد الأنبياء ولما انتصر محمد ﷺ ولما وصل الإسلام من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.

الشباب كيان هذه الأمة ودعامتها ومستقبلها، والاهتمام بهذه الأمة يحتم على من يهمهم الأمر أن ينزلوا من أبراجهم العاجية أو يتنازلوا عن عهد السامري الذي وصل لهم برغبة ممن حدا حدو أتباع السامري.

أقول قولي هذا وأستغفر الله ربّ العالمين. اللهم بلغت. اللهم فاشهد.

سيهات - دكتوراه في علوم الحوسبة و باحث وكاتب مستقل