آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الحمامة والغصن

الشيخ سمير آل ربح

بعد عمل مضنٍ وجهد شاق، آن له أن يستريح..

في عطلة نهاية الأسبوع يخرج وحيدًا يبحث عن مكان يخلد فيه للراحة.. يقود سيارته، يلتفت يمنة ويسرة، لينتقي مكانًا مناسبًا؛ أهو البحر أم البر، أم السماء أم الأرض؟ هل يذهب للتسوق أم إلى المطعم؟ إلى الطبيعة أم إلى ناطحات السحاب؟ وهو في حيرة من أمره إذ رأى من بعيد واحة غنَّاء قد اكتست بالخضرة أحاطت بها أشجار عملاقة قد استطالت.. وارفة الظلال.. وحين اقترب منها فإذا هي بستان بل جنة فريدة.. مليئة بالأشجار المتنوعة والثمار اليانعة والطيور الملونة والمياه المنسكبة: شلَّالًا ونهرًا وعينًا وبِركةً..

فيها من كلٍّ زوجان اثنان: الثمار بأنواعها، والورود بأشكالها، والطيور بجمالها والحيوانات بأصنافها..

أدرك أن هذا غاية مقصده.. ركن سيارته جانبًا، وترجَّل منها.. وعيناه تتأمل هذا الخلق البديع، مردِّدًا: سبحان من أوجده من عدم!

يستأذن الحارس بالمكوث بغية الاسترخاء والتأمل، في مقابل أجرة زهيدة قياسًا لما سيحصل عليه من بهجة ومتعة..


يدعوه «الحارس» للضيافة، فيستجيب له، يشير إليه إلى مجلس فخم أُعِدَّ للضيوف، يذهب ويجلس على أريكة فارهة كاد يغوص فيها، مرَّر عينيه على ما بالمجلس من أثاث فرنسي من الطراز الحديث، ومناظر مستوحاة من الطبيعة. أما السجاد الذي يضع رجليه عليه فهو إيراني فاخر قد نسجت خيوطه يدويًّا، وفي وسط السقف تتدلى ثريا طويلة تكاد تلامس الأرض، وعلى الجانب الآخر لوحة فنية تمثل سلة فواكه متنوعة بألوان مختلفة، وهناك مجسم للطاووس امتد جناحاه الملونان خيلاء وكبرياء.. تتوسط المجلس ساعة دائرية تشير إلى الساعة الثالثة عصرًا، وفي المقدمة نُصبت شاشة سينمائية عملاقة تعرض أفلام الخيال العلمي، يتخللها مناظر طبيعية خلابة من أرجاء العالم.

كل ما حوله يشي بأن هذا المكان الفاخر جُهِّزَ بأفضل ما يكون.. إنها الغاية أن يقضي وقتًا في مكان مثل هذا.

وهو مستلقٍ مبتهجًا مسرورًا، إذا بالحارس يَقْدِمُ عليه بأنواع الشراب وألوان الفاكهة وصنوف الحلويات، وشتى المثلجات.. بِمَ أبدأ؟ يتساءل في نفسه. إن هذا التنوع لمحيِّر.. أخذ تفاحة تموجت فيها ألوان الحمرة بدرجاتها.. قضمها وكأنه لأول مرة يتذوق طعم التفاح..

يُدير له كأسًا من شراب التوت القاني.. يأخذ منه جرعة، يتذوقها، يبقيها في فيه أطول مدة ممكنة مستمتعًا بالمذاق الفريد..

يمد يده على قطعة حلويات شامية وصلت للتو بالطائرة، تذوب في فمه، ليقدم له فنجانَ قهوةٍ برازيليةٍ بالهيل والزعفران..

يتركه الحارس ليستريح.. تغفو عيناه بكل هدوء، لكن مشاعره حاضرة بحضور المكان في نفسه..


على الضفة الأخرى نهر جارٍ قد أحاطت به الورود والزهور، وكأنه ما قال ابن خفاجة فيه:

للهِ نَهْرٌ سَالَ في بَطْحَاءِ

أشهى ورودًا من لمى الحسناء

و”لمى“ أي الشفاه السمر في وجه المرأة الحسناء.. يشبه حافتي النهر بهما، وأي تشبيه؟!

هذا النهر:

مُتعطِّفٌ مثل السوارِ كأنه

والزهر يكنفه مجرُّ سماءِ

أخذ يترنم بقول الشاعر أعلاه.. الجو خريفي بامتياز تهب نسمات باردة، تتقاطر قطرات الندى من أوراق الأشجار، يختار شجرة بالقرب من النهر ليجلس عندها، يميل معها غصن الشجرة الأعلى على غصن غض قد تدلَّى، يلامسه حينًا ويرتفع عنه آخر، وكلما مر النسيم عادت الملامسة، إلى أن تبرعم هذا الغصن الصغير، وأنتج وردة متفتحة تسر الناظر إليها.


الطيور والحمائم تملأ الأرجاء، لكن واحدة من هذا الحمائم لُف على عنقها طوق زُهري، ميَّزها عن أقرانها، تنتقل من مكان إلى آخر، تلتقط حَبًّا حينًا، وتنزل إلى النهر لتشرب الماء حينًا آخر، وهكذا تدور وتدور فَرِحة مسرورة.. آن لها أن تستريح. تنتخب شجرة

كثرت أوراقها وفاحت رائحتها، وانتشر عبقها، وتفرعت أغصانها. تقف على الغصن الأكثر استطالة والأكثر متانة، لتعتمد عليه ولا تسقط.. تلتقط أنفاسها وتهدأ.. تغفو عليه، ثم تنتبه أين هي الآن؟.. تستجير بطوقها إليه.. تنزعه وتضعه على ذلك الغصن ليكون علامة ترجع إليه حين ضياعها.. في باكر الصباح تتوالى قطرات الندى على الغصن، فيبتل، وتبتل معه.. تشعر الحمامة بانتعاش لكنها تنتفض كما انتفض العصفور قبلها بلَّله القطرُ..

لاحقًا تأتيه بطوق آخر، لكنه أصغر حجمًا، لونه أحمر قانٍ.. تضعه عليه.. تلألأ وتوهج ثم أضاء.. ليكون علامة إضافية لكيلا تتيه عنه..

شعرت «الحمامة» بالعطش طارت عن غصنها إلى النهر، تنزل رويدًا رويدًا.. تشرب قليلًا، ثم تعود وتشرب.. التقطت أنفاسها، وعادت إلى غصنها لتأخذ طوقها وتلفه حول عنقها..


يقصد شجرة رمان مثمرة وارفة ليستظل بظلها، والأنهار تجري من تحتها.. يتعمد الإغفاء لا لحاجة، بل رغبة ليعيش الخيال هربًا من الواقع المرير، متمثلًا قول الشاعر:

وإنّي لأهوى النَّوْمَ في غيرِ حِينِهِ

لعلَّ لقاءً في المنامِ يكُونُ

تُحدِّثني الأحلامُ أني أراكم

فيا ليتَ أحلامَ المنامِ يقِينُ

فما يغيب عن الشهود، قد يأتي في حال الغياب، وما لم يأتِ في اليقظة يأتي في المنام..

وهو بين النوم واليقظة يمد يده ليقطف رمانة بحجم يده.. قِشرها ممزوج بين الأحمر والأصفر، يفلقها، وإذا بحباتها الحمراء تتناثر بين يديه.. يلتقطها الواحدة تلو الأخرى ليستمتع بها.. يطيل في أكلها ليبقى مذاقها في فمه أطول مدة ممكنة.. بقيت القشور.. أخذها ووضعها تحت الشمس لتجف، ثم طحنها ليصنع منه مشروبًا هو علاج لما به من داء..

ومن شجرة إلى الرمان إلى التوت بألوانه الأحمر والأبيض والأسود، يأخذ من هذه كفًّا، ومن تلك كفًّا، يأكله حبة حبة.. لكنه يتوقف بما ذاق شرابه حين وصوله.. عند التوت القاني فيستزيد منه لطيب مذاقه..


يحين وقت النوم، يعد له الحارس فراشًا وثيرًا في غرفة نوم فاخرة.. لكنه يأبى إلا أن ينام تحت تلك الشجرة التي اختارتها الحمامة بطوقها لتقف على غصنها الغض، يتسلل النوم إلى جسده بعد يوم قضاه متواصلًا في هذه الأرجاء.. في سباته يرى أحلامًا هي انعكاس لما رآه في يومه.. يبتسم نائمًا، وينشرح في سباته.. إنها الروح التي إن سكنت سكن معها الجسد والجوارح..

تتسلل خيوط الشمس الذهبية معلنة شروق يوم جديد مفعم بالنشاط والحيوية.. يحضر له الحارس طعام الإفطار الشهي: القشطة البلدية والعسل المصفى والبيض المقلي والكبدة المشوحة.. أعد له شايًّا عراقيًّا قد اختمر.. وخبزًا خرج لتوه من تنوره.

أكل، وحمد الله على ما أكل وعلى ما أنعم عليه من نِعَمِه ظاهرة وباطنة، وانطلق إلى رحاب الحياة يخوض غمارها إلى أن يصل إلى مبتغاه.