التواصل الوطني وقضايا المستقبل
ثمة معطيات عديدة، تدفعنا إلى القول أن التواصل الإنساني بكل صوره ومستوياته، من الضرورات القصوى في حياة الإنسان الفرد والجماعة، وهو مساحة حرية وتفاعل متبادل، ورسالة حوار وتعارف وأرضية تسامح وتعايش بين الثقافات والأفكار المختلفة..
لذلك فإن تطلعنا جميعا، ينبغي أن يتجه إلى ضرورة إرساء قواعد وأطر للتواصل المستمر بين مختلف التعبيرات والثقافات، واستكمال الشروط الضرورية لإطلاق فعل تواصلي شامل..
وفي منظورنا وتقديرنا، أن فعل التواصل المستديم، هو الذي يحرر الوعي الوطني والثقافي من كل التشوهات والأوهام التي تغذي حالات القطيعة والإقصاء..
ولا تواصل فعال ودينامي، بدون تسويد قيم الحرية والنقد والتسامح.. ففي كنف الحرية وثقافة والحوار والتسامح، تذوب الفروقات والاختلافات، وتتبلور وظيفتها الحضارية في إثراء المعرفة والواقع، وإنضاج خيارات عديدة للرقي والانطلاق..
وفي رحاب النقد البناء تنمو المعرفة، وتزدهر مواطن الإبداع، وتثرى مصادر التجديد والتطوير في الأمة والوطن.. من هنا فإن الإنصات الواعي والعميق لكل الآراء والأفكار والإبداعات، يجعل وعي الاختلاف وعيا جماليا كتنوع أغصان الشجرة..
ومهمة المنابر الإعلامية في هذا الصدد، احتضان الجهد الإبداعي والنقدي، وتعميق آفاقه ومتطلباته في المحيط الاجتماعي.. كما أن الوظيفة الجوهرية للقارئ والنخبة، هي أن تفتح عقولها وتوفر الاستعداد النفسي اللازم، للقبول بخطاب النقد والإبداع..
وهذا القبول لا يعني بأي حال من الأحوال، أن ننخرط في المضاربات الأيدلوجية والفكرية، بل يعني توفير الظروف الذاتية والموضوعية لترجمة المفردات الجديدة إلى حقائق شاخصة ووقائع راسخة..
ولا نعدو الصواب حين القول: أن هذه العملية بحاجة إلى تكريس قيم الحرية والعدالة في الفضاء الاجتماعي.. وذلك لأنه إذا توفرت الحريات العامة، توفر المناخ الملائم لتعبئة طاقات المجتمع، وبلورة كفاءات نخبته، وازدادت إبداعاته ومبادراته، وكل هذه الأمور من القضايا الحيوية لصناعة القوة في الوطن..
ويخطأ من يتصور أن الإقصاء والنفي والنبذ، هي القادرة على خلق المواطنة الصالحة وحالة الولاء إلى الوطن..
إننا نرى ومن خلال التجارب التاريخية العديدة، أن الحرية والشفافية وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي الكفيلة بتعميق حس المواطنة الصالحة.. فشعب الولايات المتحدة الأمريكية، أتى من بيئات جغرافية متعددة، وأطر عقدية ومرجعيات فكرية وفلسفية متنوعة، ولكن الحرية بكل آلياتها ومجالاتها ومؤسساتها، وسيادة القانون والمؤسسات الدستورية، هي التي صهرت كل هذه التنوعات في إطار أمة جديدة وشعب متميز..
وحدها الحرية التي تعيد الاعتبار إلى الذات والوطن، وتعيد صياغة العلاقة بينهما، فتنتج وعيا وطنيا صادقا، يحفز هذا الوعي على الدفاع عن عزة الوطن وكرامة المواطنين.. فالاستقرار السياسي والمجتمعي يتطلب باستمرار تطوير نظام الشراكة والحرية على مختلف الصعد والمستويات، حتى يتسنى للجميع كل من موقعه خدمة وطنه وعزته..
وأن القواسم المشتركة المجردة بوحدها لا تصنع وحدة، وإنما هي بحاجة دائما إلى تنمية وحقائق وحدوية ومصالح متداخلة، حتى تمارس هذه القواسم المشتركة دورها ووظيفتها في إرساء دعائم الوحدة وتوطيد أركان التوافق..
لذلك فإن المطلوب، أن ننفتح على مساحات التنوع ونتواصل مع المختلفين من أجل استنبات مفاهيم وقيم جديدة، تزيد من فرص تقدمنا، وتحررنا من شبكة العجز والاستكانة، وتجعلنا نقتحم آفاقا جديدة، تحملنا على نسج علاقة جديدة مع مفاهيم الحرية والنقد والتواصل والوطن..
وعلى هدى هذه العلاقة الجديدة، وذات المضامين الحضارية والإنسانية، نخلق فضائنا النقدي، ونمارس تنوعنا وتعدديتنا، ونجسد حضورنا وشهودنا..
والنقد لا يعني بأي حال من الأحوال التفلت من القيم ومحاسن العادات والأعراف، وإنما يعني استخدام إرادتنا والتعامل مع راهننا بتحولاته وتطوراته بما ينسجم والمثل العليا والضمير والوجدان..
فالنقد المنضبط بضوابط الحكمة والمصلحة العليا، من وسائل التطور والتقدم.. لذلك ينبغي أن لا نخاف من النقد أو نرذله، وإنما من الضروري التعامل الفعال والإيجابي مع عمليات النقد عن طريق الآتي:
ثقافة جديدة:
1 - من المؤكد أن تثمير النقد في عمليات التقدم الاجتماعي، بحاجة إلى ثقافة جديدة تدخل في النسيج الاجتماعي، قوامها قيم التسامح والحرية وحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير.. فالنقد يتطور ويؤتي ثماره الإيجابية، حينما تسود ثقافة تسمح للجميع بممارسة حقائقهم وقناعاتهم، وتعطيهم حق التعبير عن آرائهم وأفكارهم.. فلا فعالية للنقد، بدون ثقافة تعتني بعملية الحوار وتنبذ كل خيارات الإقصاء والنبذ والعنف.. فبمقدار تواصلنا المعرفي وحوارنا الثقافي مع الآخرين، تتجلى فعالية النقد في الفضاء الاجتماعي..
حيوية اجتماعية:
2 - لا يتطور النقد، ولا يعطي ثماره الإيجابية، إلا في فضاء اجتماعي يستوعب ضرورات النقد، ويوفر متطلبات استيعابه..
فالحيوية الاجتماعية، ووجود أطر ومؤسسات وقنوات لتداول الرأي وممارسة النقد والمراجعة والتقويم، كلها عوامل تساهم في توظيف عملية النقد والمراجعة في تقدم المجتمع ورقيه الحضاري..
لذلك فإن المطلوب من جميع الشرائح والتعبيرات الاجتماعية، أن تتحلى بسعة الصدر وحسن الظن والحكمة من أجل تثمير عملية النقد في البناء والعمران..
حوار النخب:
3 - من البديهي القول: أن المشاكل في حد ذاتها لا تنشأ من وجود الاختلاف، ولا من وجود أنظمة للمصالح مختلفة، بل تنشأ من العجز عن إقامة نظام مشترك أو من تخريب هذا النظام من بعد إيجاده..
وحوار النخب ينطلق من الاعتراف بالآخر كما هو شريكا مختلفا مع احترام هذا الاختلاف وفهم أسبابه واعتباره حافزا على التكامل لا داعيا إلى الافتراق، وقدرة نفسية وعملية تتطلب رؤية الذات من موقع الآخر، وقدرة على فهم الآخر بلحاظ اعتباراته ومعاييره الخاصة..
فحوار النخب من الأطر الهامة، لاستيعاب عملية النقد والمرجعة، والانطلاق نحو تصحيح الأوضاع وتقويم الاعوجاج.. كما أن هذا الحوار من الخطوات الجوهرية التي تساهم في تأسيس نظام مشترك وصيغة فعالة وعملية للتنسيق والتعاون..
وجماع القول: إننا لا يمكن أن نمنع النقد والتفكير الحر، وأن أي جهد يبذل في سبيل منعهما، يدخل الجميع في متاهات ودهاليز، لا تفضي إلا إلى المزيد من التدهور والدخول في معارك هامشية، تشتت الطاقات، وتبعثر الجهود، وتكثف من حالات التردد وجلد الذات..
بينما المطلوب هو الإنصات الوعي لعملية النقد والتفكير الحر، واستيعاب القضايا الرئيسية المطروحة والمتداولة، وذلك لإحداث نقلة نوعية في مسيرة مجتمعنا ووطنا باتجاه أكثر حيوية وفعالية نحو التطلعات والطموحات المشروعة..