المجتمع المدني وقضايا الوحدة الوطنية
مقاربة أولية
لا شك أن بناء دولة مؤسسية، تعتمد على المؤسسات والأطر الإدارية الحيوية. وأبناءها يتنافسون بسلاح الكفاءة والإمكانات في سبيل إعلاء شأنها وتحقيق غاياتها. يُعد من الأهداف النبيلة التي يسعى إليها المواطن الواعي بمصالح حاضره ومستقبله، والمدرك لمتطلبات النهوض المتكامل في هذا العصر.
دولة تتجاوز كل نقاط التوتر التاريخية والطائفية والعرقية والقبلية، من أجل بناء وحدة وطنية حقيقية، قوامها القانون الذي لا يفرق بين مواطن وآخر إتكاءاً على عرقه أو قبليته أو انتماءه التاريخي. بل هو قانون يصهر كل هذه التنوعات، ويجعل كل مواطن ينتمي إلى الدولة ومؤسساتها المختلفة، بلا وسيط قَبَلي أو مناطقي «جهوي» أو مذهبي أو ما أشبه.
والدولة ككيان مؤسسي لها حضور ثابت في الجغرافيا والتاريخ والحضارة بمعنى أن الوجود الإنساني الطبيعي، لا تكتمل أموره، وتنتظم إرادات أفراده إلا بوجود مؤسسة ناظمة. وعبر التاريخ وتراكم التجربة، هذه المؤسسة تتطور وتأخذ مساحات إضافية إلى أن وصلت إلى شكل الدولة المعاصر… إنها كيان دائم بصيغ متطوره بإستمرار.
وحتى تكون علاقة المجتمع والدولة متكاملة، بحيث أن المجتمع بمؤسساته الذاتية يقوم بدور البناء والتطوير، كما أن الدولة بهياكلها المختلفة تقوم بذات الدور.. من الضروري أن تكون العلاقة بين الطرفين وفق محددات الاحترام المتبادل بكل الأبعاد والآفاق.
وان غياب هذه المحددات، يؤسس على الصعيد الواقعي حالة عجز عميقة عند المواطنين. مفادها هو تقلص الشعور بأنهم ينتمون إلى وطن واحد وهوية وطنية مشتركة.
وإن بروز حالة معنية في ضرورة إبراز الخصوصيات التاريخية والثقافية عند كل طرف في الدائرة المجتمعية الواحدة، لا يشكل خطراً حقيقياً على الوحدة الداخلية للمجتمع. لأن هذه الخصوصيات ليست الشكل الوحيد والنهائي للتعبير عن إنتماء الإنسان إلى تاريخ محدد أو ثقافة معينة. فثمة دائرة إنتماء أخرى تشمل وتستوعب كل هذه الخصوصيات، وهو الانتماء إلى القاعدة المشتركة التي تجمع الجميع ألا وهو «الوطن».
وهو الانتماء الذي يشمل الجميع، ويفيد من كل الخصوصيات والدوائر الثقافية المتعددة، بما يطور الوطن ويثري حركته عبر التاريخ. وإن تطور الوطن مرهون بمدى القدرة النظرية والعملية، على بلورة رؤية أو نظرية وطنية، تستوعب كل الخصوصيات، وتدفع بإرادتها تجاه البناء الوطني الشامل. فالوطن في المحصلة النهائية هو إرادة جميع الخصوصيات في العيش المشترك.
وبدور الدولة في تعميق أسس السلم المجتمعي، يتسع الوطن لمدارسه المختلفة، وتباشر كل واحدة منها دوراً أساسياً في تكريس هذه الأسس وتمتين أواصر الوحدة الوطنية.
والمدرسة الفكرية أو السياسية من المستحيل أن تتحول إلى وطن بديل، لأنها عقائد وأفكار ونظم، وليست أرضاً ومكاناً وجفرافيا. لهذا ينبغي إلغاء حالة التماثل بين الوطن والمدرسة الفكرية أو السياسية..
”فالوطن مجموعة أفراد يلتقون في المكاني والبراني، ويتدبرون شؤونهم للآن وللمستقبل. وفيها يقوم الزمان على المكان فيقدسه أو يدنسه، ويفضله في جميع الأحوال.. وفيه يتعاقب الزمان على نفسه بالأحرى في حصن المكان الثابت المتصل. وتباين الطائفة الوطن، فهي نسق ينظم الشبيه إلى الشبيه، يقيم بين أعضائها وحدة جوهرية، والوطن محل مكوث المختلف إلى المختلف، يقيم بين المختلفين وحدة شكلية: مساواة مختلفين أمام القانون، وذاكرة مصطنعه بالتوافق أو بالقهر. ولذا فعن الطائفة يرتد المرء أو ينشق فينبذ أو يهدر دمه، وعن الوطن يرحل المرء أو يُفنى بالرغبة أو بفعل القانون“[1]
وفي هذا المعنى يبدو الوطن وعاءاً فريداً وضرورياً، لأنه وطن التعايش والتعدد وإستيعاب التنوع وإعادة إنتاجه وحدة وطنية متينة. وينبغي أن نتذكر دائماً: أن التنوع إذا أحسن إدارته والتعامل معه، تحوّل إلى ثروة فعلية، تزيد من آفاق المجتمع وروافده الإنسانية.
وإن ضامن التنوع المجتمعي والتعدد الثقافي في الإطار الواحد، هو القضية الوطنية، التي تتسع للجميع، وتنتظر الإثراء والفعالية من مختلف دوائر التنوع والتعدد. وهذا يعني أن هذه الدوائر في علاقاتها مع بعضها تتجاوز العناوين العصبوية الضيقة، إلى رحاب المواطنة التي يشترك فيها الجميع.
”وعلاقات المواطنة وحدها تكفل للتعددية مضموناً صحيحاً، إذ هي حاصل إعادة توزيع أفراد المجتمع وفئاته داخل الكل الاجتماعي على قاعدة الولاء للوطن، والولاء للنظام المدني، فتتوزع الحقوق تبعاً لذلك على مواطنين يكون وازع السياسة والتمثيل لديهم خدمة الحق العام، لا حيازة حق العصبية وتجديده من طريق هضم حقوق عصبيات أخرى“[2] .
وبالتالي فإن الدور المؤمل من الدولة في هذه المسألة، هو توفير المناخ الوفاقي والتعايشي بين شرائح المجتمع المتعدد، وحمايته من كل الأخطار التي تهدد مسيرة التعايش في المجتمع. وذلك عبر تطوير الوعي والفكر والحوار والتفاهم والتعاون، وتطوير وسائل الإدارة والتنظيم الاجتماعي، وترشيد الطاقات، وعقلنة التوجهات، وتحسن بالتالي من آليات تحقيق الوحدة الوطنية والمجتمعية.
وبدون ذلك يتدهور الوعي الاجتماعي، ويتحول من وعي وطني - انساني سليم، إلى وعي إثني أو مناطقي «جهوي» أو عشائري أو طائفي. وبهذا تتدهور كل شروط الوحدة الوطنية، وتضعف كل حظوظ وحدة المجتمع، في إطار احترام التنوع، ووفق هذه العملية تتحول الدولة إلى أداة للسلم المجتمعي، وإطار لتنظيم مصالح جميع أبناء المجتمع بدون تحيز أو ميل لمجموعة دون أخرى..
تمايز الإنتماء والولاء
ولعل من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها الكثير، هو المساوقة بين الانتماء والولاء وكأنهما حقيقة واحدة. مع العلم أن الانتماء إلى أي دائرة تاريخية أو ثقافية أو قبلية، هو معطى موروث لا كسب حقيقي للإنسان فيه، فالإنسان لا يتحكم في القبيلة التي ينتمي إليها، كما أنه ليس بمقدوره أن يمتنع من الانتماء إلى عائلة محددة أو دين محدد. لأن كل هذه الأمور، هي معطى موروث يولد مع الإنسان، لذلك فلا دخل له به.
بينما الولاء هو خيار يتخذه الإنسان، ويرتب على ضوءه بعض المواقف والسلوكيات، وفعل وإلتزام. فالإنسان يولد في عائلة، ومن دين ولا يختارهما، في حين أنه يلتزم بوطن أو مدرسة فكرية أو سياسية..
ف ”الإنتماء وضعية طبيعية، لا تتحول إلى وضعية سياسية إلا إذا إنتقلت من حالة الإنتماء إلى حالة الولاء. فالإنتماء إلى عائلة لا يتحول إلى نظام عشائري أو ملكي إلا عندما يلتقي الأفراد على الولاء للعائلة أو لعائلة. والانتماء إلى الدين يصير مشروعاً سياسياً طائفياً أو دينياً عن طريق الولاء. والإنتماء إلى الوطن يحتاج إلى الولاء لإنتاج نظام وطني ودولة“[3] .
ويمكن للإنسان أن تتعدد انتماءاته، لكنه من الضروري أن يتوحد ولائه، ولا تناقض بين تعددية الإنتماء وواحدية الولاء..
لهذا من الضروري العناية بموضوعة الأسباب الوطنية والمجتمعية الكفيلة التي تجعل مفهوم الولاء مفهوماً بناءاً ومتناسقاً مع جوهر الانتماء التاريخي للإنسان.
لأن الولاء يقوم على عقد اجتماعي يحقق الأحلام والمصالح. وإن أي خلل في دائرتي الانتماء والولاء، يعني على المستوى العملي تأسيس لمجموعة من المشاريع، إما مشاريع حروب أو مشاريع ضياع، وفقدان البوصلة الناظمة لإتجاه الحركة الاجتماعية.
فالعقد الوطني هو عبارة عن تعاقد مجموع الإرادات الوطنية ورضاءها على صيغة توافقية لإدارة شؤون البلاد والعباد، وبهذا تتضح منظومة الحقوق والواجبات في شتى الحقول.
والدولة هنا ليست أداة في يد فئة أو شريحة أو طبقة، بل هي دولة العقد الاجتماعي. بمعنى أن الدولة كمؤسسة قائمة في كيانها ووظائفها وأدوارها المختلفة على قاعدة الرضا والتوافق، وكل مقتضيات العقد الاجتماعي. فالوحدة الوطنية ليست معطى ثابت أو مسبق، بل هي عملية متكاملة تصنع عن طريق دينامية اجتماعية، تتجه بإستمرار صوب تمتين اللحمة الداخلية، وتوفير كل الأسباب التي تكرس هذه الدينامية في هذا الاتجاه.
فالتعاقد الاجتماعي يقتضي وشأنه شأن كل إتفاق ”حصول على شيء في مقابل التنازل عن شيء بكيفية إرادية“[4] .
وبهذا التعاقد تتشكل شخصية إعتبارية لمختلف أبناء المجتمع، ويسعى كل فرد من أفراده، إلى تمتين مبادئ هذا التعاقد وحمايته من الأخطار الداخلية والخارجية التي تهدده.
الأقليات مشكل وطني
ولعل في مشاكل الأقليات في الكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، إشارة إلى إصطدام دوائر الإنتماء مع دائرة الولاء.
وتأسيساً على هذه المسألة، من الضروري أن ننظر إلى مشكل الأقليات في العالم العربي والإسلامي على أساس أنها مشكلة وطنية، وليست مشكلة إنفصالية أو خاصة بفئة محددة من أبناء الوطن.
فالإنتماءات التاريخية والثقافية والدينية واقع موضوعي في المجتمعات المعاصرة، وليس بمقدور أي إنسان أو أية جهة من تغيير هذا الواقع الموضوعي، أو التشكيك بوجوده وآفاقه.
وبإستمرار هذه الإنتماءات الموضوعية، تباشر دورها الإيجابي في إثراء الوحدة الوطنية ومفهومها السياسي والاجتماعي، إذا كان التعامل السياسي والثقافي مع هذه الانتماءات تعاملاً حضارياً، بعيداً عن كل مفردات التعصب والقطيعة والإلغاء والتشكيك التاريخي والمعاصر. كما أنها تتحول إلى خط دفاع عنيد عن الذات، إذا كان التعامل سيئاً وبعيداً عن كل أبجديات الحضارة والعصر.
وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد، أن بلورة مشاريع ذات مضمون وطني جاد، بعيداً عن التوترات التاريخية أو الثقافية، هو الإسلوب الأمثل لإيجابية الانتماءات الموضوعية في الدائرة الوطنية.
أما الإلغاء أو التغافل عن هذه الانتماءات الموضوعية، وعدم إدراك خصوصياتها، لا يؤدي إلا إلى المزيد من تشبث أهل هذه الإنتماءات بإنتمآتهم.
ولم يسجل لنا التاريخ الإنساني كله مثالاً واحداً، يكشف أن انتماءاً موضوعياً قد اندثر من الوجود أو التأثير من جراء سياسة التغييب المقصود أو القطيعة التامة مع متطلباته ورموزه. وإنما دائماً كان للمشروع الوطني ذو المضامين الشاملة، الفضل في استيعاب هذه الانتماءات الموضوعية، ودفعها بإتجاه المشاركة الفعالة في مشاريع البناء والعمران الوطني. وأية محاولة ثقافية أو سياسية أو اجتماعية تحاول أن تتجاوز قسراً هذه الانتماءات الموضوعية أو تعاديها في وجودها الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي فإن مآلها الفشل. لأن الانتماءات الموضوعية حقائق تاريخية لا يمكن إزالتها من الخريطة الاجتماعية. وإن أي تعسف في العلاقات مع هذه الانتماءات الموضوعية، يؤدي إلى تأسيس مشاريع عدة للوطن والدولة، تتصارع مع بعضها بكل أسلحة الصراع. ويكون الخاسر الكبير في المحصلة النهائية هو الوطن الذي يشمل الجميع. ويستوعب كل التنوعات في أطر وطنية فعالة. لأن النظام الاجتماعي والسياسي الذي لا يلبي المتطلبات الطبيعية لهذه الانتماءات ينفصل تلقائياً عن القاعدة الاجتماعية، ومن ثم تمارس القاعدة الاجتماعية لا أبالية مقصودة تجاه النظام الاجتماعي لأنه لم يعط الناس شيئاً.
التعايش مفهوم متكامل
وإن البديل الذي نراه ممكناً وضرورياً لحالات التنازع والصراع بين الانتماءات الموضوعية والتنوعات الثقافية والسياسية، هو التعايش المشترك بين هذه التنوعات على قاعدة المشترك الإنساني والديني، والوحدة الوطنية والمصالح الحاضرة والمستقبلية.
والتعايش السلمي لا يعني إلغاء مبدأ التدافع والصراع في الحركة الاجتماعية، وإنما يعني بشكل محدد: إستبدال تقنيات التدافع وأساليب الصراع من تقنيات وأساليب عنفية - قمعية، إلى أساليب سلمية، تقوم على الحجة والبرهان، وتحكيم الرأي العام، لا على الإقصاء والنفي.
وتبقى الحدود التي تحافظ على منهجية هذا التدافع، هو الولاء للأمة والمجتمع والوطن. وإن كل الأفكار والمشروعات إجتهادات في هذا السبيل. والعيش هنا مفهوماً متكاملاً، بمعنى أن الإنسان أو الجهة التي لا تستطيع التعايش مع الآخرين، لا يمكنها أن تتعايش في داخلها.
فالمسلم السني الذي لا يستطيع العيش مع المسلم الشيعي، فإنه لن يتمكن أيضاً من العيش المشترك مع نظراءه في الانتماء المذهبي والعكس.
ولهذا فإننا نرى مفهوم التعايش السلمي مفهوماً حضارياً، لا يؤسس للعلاقة بين التنوعات السياسية والثقافية في داخل المجتمع فحسب، بل يؤسس للعلاقة السليمة في داخل الإطار الواحد أيضاً.
ودائماً العلاقة السيئة مع الانتماءات الموضوعية، لا تصنع مشاريع وطنية بقدر ما هي تسقط مشاريع وخيارات. فهي علاقة تشكل ظروف ذاتية وموضوعية لإسقاط مشاريع، دون أن تمتلك القدرة على إنتاج مشاريع بديلة.
والتعايش لا يعني إنطباق وجهات نظر الجميع في كل القضايا والأمور، وإنما يعني العمل على تأسيس وحدة سياسية - وطنية، ترعى مصالح الجميع ويشارك في بلورتها الجميع. لذلك فهو ليس صيغة جاهزة ولكنه ثمره تراكم خاص في الميدان الاجتماعي والسياسي والثقافي والروحي، وإن هذا التراكم هو الذي يؤسس قاعدة اجتماعية - ثقافية - سياسية، لإمتصاص التوترات الاجتماعية بشكل سلمي، وبعيد عن كل أشكال العنف والقهر.
ولا شك أن العمل على تجديد نمط العلاقات الاجتماعية على قاعدة التعايش بين مختلف التنوعات والانتماءات يخلق أزمة، بفعل أن القطيعة بين هذه التنوعات، صنعت واقعاً وظروفاً وقوى، تستفيد من إستمرار هذه القطيعة. لذلك فإننا ينبغي أن ندرك أن هناك قوى وشخصيات لها مصالح في استمرار الوضع، ستعارض تحت عناوين شتى مشروع التعايش، لهذا من الضروري التأكيد على الأمور التالية:
1 - ضرورة وجود وبلورة البرنامج الناضج، الذي يبلور خيار التعايش، ويعمق قواعده في الوسط الاجتماعي. فلا نكتفي بوجود شخصيات تحبذ هذا الخيار، وتستأنس بطرحه، لأننا لا يمكننا تحقيق مشروع التعايش بين أبناء المجتمع الواحد، عن طريق مجموعة من الأفراد المتباعدين.
وإنما نحن بحاجة إلى قوى اجتماعية - وطنية، ترى في التعايش المجتمعي مشروع حاضرها ومستقبلها.
وينبغي أن ينتج المؤمنون بالتعايش قوى وطنية ثقافية واجتماعية واقتصادية، تدفع بهذا المشروع إلى الأمام، وتذلل العقبات التي تحول دون إنتشار هذه القناعة في الوسط الاجتماعي.
2 - ضرورة تغيير منطق التعامل والنظر إلى الأمور والقضايا.. إذ أن من الأخطاء الجسيمة التي قد يرتكبها البعض، هو أنه يتعامل مع شأن السلم الأهلي بمنطق القطيعة، وتصادم الانتماءات الموضوعية لذلك يبقى شعار السلم الأهلي جافاً ومجرداً وبعيداً عن الواقع، لأنه تمارس ليل نهار تصرفات، وتتخذ مواقف، ويُنظر إلى أشياء بعين وبمنطق بعيد كل البعد عن منطق السلم الأهلي والتسامح المجتمعي.
لهذا فإن المطلوب ليس فقط رفع شعار السلم المجتمعي، وتعايش الإنتماءات الموضوعية في الإطار الواحد. وإنما المطلوب هو تغيير منطق النظر إلى الأشياء. إذ أن الكثير من الصراعات والحروب الاجتماعية، هي وليدة منطق حرب وقطيعة وتعصب أعمى. وإن البوابة الأساسية لإشاعة السلم الأهلي ومتطلباته، هو إيجاد منطق سلمي في التعامل مع كل القضايا والأمور.
وإن الشيء الذي يجب تجاوزه لتحقيق مفهوم التعايش السلمي في الواقع الخارجي هو منطق الإلغاء وعقلية التميّز الوهمية. لأنها هي التي تربي النفوس وتشحنها بأساليب الإلغاء والنفي.
3 - خلق البدائل، ومن الطبيعي أن هذه العملية صعبة ومعقدة وتحتاج إلى زمن طويل إلا أن الخطوة الأولى التي تؤهلنا لصناعة البديل وإنضاج أفكاره هو تعريف الذات تعريفاً سليماً وواقعياً.
إذ أن النظرات الخاطئة التي يحملها الأطراف عن بعضهم البعض هي من العوامل الأساسية للتباعد والتناقض الواقعي بين التنوعات الموضوعية.
وينبغي في هذا السبيل أن نختار وسائل التعبير والتعريف الصحيحة، التي تجعلنا نرسم صورة واقعية، عن ذواتنا والآخرين. ولا بد أن نبدع أساليب سلمية - ديمقراطية لتطوير مستوى التعايش الوطني ومجالاته.
والتعايش ليس حقيقة ناجزة مغلقة ومكتفي بذاته، وإنما هو إطار مفتوح تثريه كل الخطوات والمبادرات والإبداعات الإنسانية التي تتجه إلى إعلاء المشترك الإنساني.
التنوع المجتمعي والعلاقة مع الخارج
لا شك أن بناء الدولة الحديثة، وتكريس التقسيم الجغرافي الحالي للعالمين العربي والإسلامي. أوجد مجموعة من التحديات والمشاكل الجوهرية التي كانت بشكل أو بآخر أحد الأسباب الرئيسية، إلى توتر العلاقات السياسية بين هذه الكيانات. ولعل من أهم التحديات التي واجهت هذه الكيانات «الدول الجديدة» هو كيف ينبغي أن تكون علاقة الأطر الإثنية والقبلية والمذهبية مع إمتداداتهما في الخارج.
السلطات السياسية، ومنذ الصراع الصفوي - العثماني، نظرت إلى هذا الامتداد بريبة وشك متواصل، واعتبروا الوجودات المذهبية والإثنية، ما هي إلا طابور خامس لذلك الوجود المذهبي أو الأثني الكبير.
وأصبح هذا الوجود يدفع ضريبة هذا الفهم عبر التاريخ.
وإننا نرى أنه ينبغي، أن ينظر إلى مسألة الوجودات المذهبية والإثنية وعلاقتها مع الخارج، ليس من زاوية دينية أو مذهبية محضة، وإنما من زاوية سياسية - اجتماعية. بمعنى أن الإنسان الفرد والجماعة، حينما تلبي مطالبه النوعية، ويندمج وطنياً واجتماعياً، وتزال كل عوامل التفتيت الاجتماعية والسياسية والثقافية. فإنه سيبذل كل غالي ونفيس في سبيل الدفاع عن الوجود والواقع. أما إذا أقصيّ هذا الإنسان من ممارسة دوره ومسؤوليته الوطنية، وحورب في رزقه، وإنتماءه العقدي والفكري، وأصبح مهمشاً ولا يمتلك أدنى صلاحية في تسيير أموره وقضاياه. فإنه طبيعياً سيبحث عن ملجأ يلتجأ إليه، ليدافع عنه، ويعوضه النقص الذي يعيشه. كما أن هذا الأسلوب، يصنع لديه حالة من التحدي الشديد تجذبه نحو التشبث بكل ما يمت بصلة إلى القضية أو المسألة التي بسببها عومل بسببها معاملة دونية وظالمة.
إن تنظيم علاقة الوجودات الإثنية والمذهبية بإمتداداتهما في الخارج، لا يتم بسلاح الفرض والقهر والتضييق والعسف الاجتماعي والسياسي. وإنما بالمزيد من الانفتاح الوطني والاستيعاب الاجتماعي، وبيان الثمار والفوائد من الاندماج الوطني، وتجاوز عوامل الانغلاق والعزلة. وإن إستقلال الذات وعدم قبولها الفطري من الخضوع الأعمى للآخرين أو التبعية لهم بحاجة إلى تنمية وتشجيع، ولا تتم التنمية والتشجيع إلا بالمزيد من آليات الاستيعاب الوطني الصادق.
التنوع المجتمعي بين الاستقلال والتبعية للخارج
وإننا هنا لا ندعو إلى إنغلاق هذه الوجودات في كياناتها الوطنية المعاصرة. وإنما ندعو إلى إبراز الجانب الوطني لهذه الوجودات. وإعتبار وطنها الذي تعيش فيه وطناً نهائياً مهماً إتسعت إمتدادات الأمة في الخارج. لأن وحدة الأمة العربية أو الإسلامية، لا يعني بالضرورة وحدة الدولة والكيان السياسي. أي بإمكاننا أن نحقق وحدة الأمة مع تعدد الكيانات السياسية. لهذا فإن الإنسان المنتمي إثنيا أو مذهبياً إلى أقلية في وطن. مطالب بضرورة الوفاء إلى وطنه، والوفاء إلى وطنه مرهون بمدى قدرة الوطن، على توفير كل متطلبات الأمن والسلم لهذا الإنسان. وبالتالي فإن واقع الأمن والسلم الذي يعيشه الإنسان، هو الذي يحدد علاقة هذا الإنسان بالخارج وإمتداده الإثني أو المذهبي. أي أن الإنسان حينما يفقد أمنه وسلمه المجتمعي في وطنه، فإنه سيبحث عن علاقة مفتوحة مع الخارج، توفر له الأمن والسلم المفقودين. أما إذا تحقق أمن الإنسان وسلمه، فإن علاقته مع الخارج، ستكون علاقة إنفتاح وتفاعل، لا علاقة تبعية وخضوع. وإن خطاب هذه الوجودات يتصاعد في الالتزام بالقضايا الوطنية، كلما تحسنت علاقة السلطة السياسية بهذه الوجودات.
وإن علاقة المواطن بوطنه، ليست من طرف واحد، بل هي علاقة تفاعلية متبادلة.. يدافع المواطن عن وطنه كما يحفظ الوطن أمن واستقرار وسعادة المواطن. وفي رواية «الشياطين» يورد «ديستويفسكي» أنه قرأ عن حياة رجل أمريكي، أوصى بترك ثروته الهائلة بعد موته، إلى المصانع والعلوم الوضعية، وهيكله العظمي لطلاب الطب، أما جلده فطلب أن يصنعوا منه طبلاً ليقرعوا عليه ليل نهار، النشيد الوطني الأمريكي.
كل هذه التضحيات الذي يقدمها المواطن، لم تأت من جراء فراغ أو علاقة حب من طرف واحد، بل جاءت بعد علاقة متكاملة وفعالة بين وطن ومواطن، كل يُقدم للآخر عطفه وحبه وتفانيه. وإنه كلما تعمقت أواصر الإنتماء بين الطرفين كلما نضجت الثمار العامة والآثار العريضة لهذه العلاقة المتميزة.
وإن البوابة الفعلية لعملية الإنصهار الوطني، هو فتح المجال واسعاً أمام آفاق السلم المجتمعي، وتوطيد أواصر الوحدة الوطنية.
التعدد المجتمعي بين الانتماء والانفتاح
وإن تنوع المجتمع وتعدده السياسي والفكري والاجتماعي، لا يعني غياب الانتماء الوطني، حيث يسعى كل تنوع إلى الانفتاح على الدائرة المنسجمة معه تاريخياً وفكرياً، حتى لو كانت خارج الإطار الوطني. وبالتالي من الضروري التمييز بين الانتماء والانفتاح.. إن إنتماء الدوائر الاجتماعية هو إلى الإطار الوطني، والقيم الوطنية التي تحفظ العيش المشترك والوحدة الوطنية. وهذا لا يناقض بأي شكل من الأشكال إنفتاح هذه الدوائر مع الخارج، فإلانتماء إلى الوطن ضرورة وطنية ومصيرية، كما أن الانفتاح على الخارج ضرورة مجتمعية.
فالانتماء إلى الدين أو المذهب لا يعني إلغاء أو حذف الإنتماء الوطني، أو الإنتماء إلى المجتمع السياسي المحدد. بل يمكننا القول أن هذه الانتماءات المقصودة هي قوام الانتماء الديني أو المذهبي، وإلا كان هذا الانتماء الأخير مساحة فارغة أو هوة تتهاوى فيها العناصر المكونة للمجتمع أو الأمة.
فالتعدد المجتمعي ليس مبرراً للفراق بين أبناء الوطن الواحد، كما أن الإنفتاح على الخارج بما يخدم الوطن ومصالحه الاستراتيجية ليس نفياً إلى قيمة الانتماء إلى الوطن، بل هو تأكيد على ضرورة وجود مشروع وطني، يرتفع فوق الجميع، من دون أن يجافي طموحاتهم ومشاعرهم المشروعة.
وبهذا نتجاوز جميعاً حالات التشظي السياسي والطوائفي، ونظرات التفتيت والتقسيم. وينبغي أن ندرك جميعاً أن بإمكان الإنسان أن يجمع إنتماءات متعددة في آن واحد، دون أن يؤدي هذا الجمع إلى التشظي والتقسيم، وذلك إذا توفر الأمن والأمان والعيش الكريم. أما إذا فقد الأمن وغاب العيش الكريم ومتطلباته، فإن العلاقة بين عناصر الانتماء تكون علاقة سطحية - رمزية، لا تتعدى الظاهر. وهي إنتماء للجسد دون القلب والروح. ويشير إلى هذه المسألة الدكتور «برهان غليون» بقوله "عاش العالم العربي منذ الفتح الإسلامي في إطار إمبراطورية أو سلطنة كبرى، كانت تضم شعوباً متعددة يربط بينها الولاء للإسلام أكثر من الولاء للدولة. وقد ورثت هذه السلطنة، بصرف النظر عن عصورها ونماذجها عصبيات قبلية قوية، ذات صلة وثيقة بطبيعة المجتمع الرعوي الصحراوي أو الجبلي، ولأن السلطنة أي الإطار السياسي للجماعة الوطنية، كانت تضم خليطاً من الأجناس والشعوب، فلم تكن قادرة على تقديم أكثر من مشاركة وتماه رمزيين بها ومعها، في حين كان الانتماء إلى الجماعة المحلية أو العائلية أو الطائفية، هو التعويض الرئيسي عن سطحية التماهي مع الدولة وعموميته. إن الأمة الإسلامية وليس الدولة أو السلطنة، هي مركز الثقل في تشكيل الوعي الجماعي العربي.
فالأمة هي مركز التوازن والاستقطاب في مجتمع مشدود بين روابط الجماعة المحلية من جهة، والولاء الشكلي لدولة رمزية لا قومية، وفي معظم الأحيان لا دينية، أي لا تستمد سيادتها من الجماعة الدينية وإنما من السيف. "[5]
فالإندماج الاجتماعي بين أبناء الوطن الواحد، مشروط بتوفر السلم والحرية والمساواة وسيادة روح المواطنة الحقة. وإن المجتمع الذي يثير النعرات والانقسامات في وسطه، إنما يدمر شروط قوته ومنعته وتقدمه.