كوكايين الحُب
يقول وليم شكسبير ”ثلاثة انتبه منها: الماء والنار والمرأة.. فالماء يُغرِق والنار تحرُق والمرأة تُجنن“
يستثيرني كثيراً طلب تعريف ومعنى للحب من الآخرين، والجميل انك لا تسمع تعريفين متماثلين، ما يعكس بأن الحب هو حاجة دماغية «ركز معي - دماغية» مختلفة من شخص لآخر.
والسؤال المهم هوَ - لماذا نقع في حب شخص معين دون شخص آخر؟
يخبرنا علماء النفس بأننا نميل إلى الوقوع في الحب مع شخصٍ ما من الخلفية الاجتماعية والاقتصادية نفسها، على نفس المستوى من الذكاء والثقافه، وعلى الصعيد نفسه من المظهر الجيد والقيم الدينية. وانا شخصياً لا اتفق مع هذا الرأي لأنك لن تقع في حب مجموعة مكونة من 10 أشخاص مجتمعين بغرفة واحدة جميعهم يتقاسم معك نفس هذه السمات.. وللأسف هذا كل ما يعرفه علماء النفس حيث انهم لم يجدوا بعد كيفَ لشخصيتين مختلفتين تتناغم معًا لتكوين علاقة جيدة.
علمياً الحب هوَ إفرازات كيميائية بالدماغ، وفي حال الوقوع في الحب تزيد إفرازات هذه المواد وهيَ «الدوبامين، السيروتونين، الإستروجين والتستوستيرون» - إذا كنت مهتم بدراسة المواد الكيميائية - والغريب أن الدماغ البشري قادر على إفراز هذه المواد الكيميائية حتى ولو بعد 30 سنة من الاستمرار بحب الشخص نفسه، عكس الحيوانات التي بالعادة يكون الحب لديها لحظي لبرهة قصيرة لا يتعدى على حد تعبيرنا الحب من النظرة الأولى، والذي سرعان ما يتلاشى بعد التزاوج.
هل تعلم بأن الحب أخطر من الكوكايين؟ والحب ليس دائما تجربة سعيدة - في دراسة تم فيها طرح أسئلة عن الحب، السؤال الأول ”هل سبق لك أن تم رفضك من قبل شخص كنت تحبه حقا؟“ والسؤال الثاني هو ”هل سبق لك أن هجرت شخص أحبك بحق؟“ 95% من الرجال والنساء على حد سواء قالوا نعم - أي أنه في الغالب - لا أحد يخرج من الحب على قيد حياته السابقة.
يوجد جزء في الدماغ البشري خاص بالمكافآت يكون نشِطاً في حالة الشعور بالحب، وهو نفس الجزء الذي ينشط عند ذروة الشعور الناتجة عن الكوكايين، على الأقل يُمكنك الأقلاع عن الكوكايين - لكن الحب هاجس يتملكك، تفقد شعورك بالذات، شخصٌ ما يخيم في رأسك، الحب فعلاً متوحش، والهاجس يكون أشد حينما لا تحصل على ما تصبو إليه ممن تحب.
يمكن لنا أن نفسر أن ذلك النظام في الدماغ «نظام المكافآت» للرغبة، للتحفيز، للتوق، للتركيز، يصبح أكثر نشاطاً عندما لا يمكنك ان تحصل على ما تريد. في هذه الحالة - إعّلم - إنَ أعظم جائزة في الحياة هِيَ - شريك مناسب للزواج.
اللطيفة والمفارقة أن وليم شكسبير سطر للعالم الحديث اعظم قصة للحب «مسرحية روميو وجوليت»، حيث لا أُبالغ إذا قلت أن العالم الناطق باللغة الأنجليزية يعتبرها قصة الحب الأولى.. ويتطلع الشبان والفتيات بحدقات أعيُن وردية يرومون أن تتعثر أيام حياتهم بقصة حُب مشابهة، والحقيقة أن شكسبير كتب هذه المسرحية ساخراً بالحب ومصوراً أنه سُم يقتل الفؤاد ويُزهق الأرواح وربما حريٌ بالمرء أن يتحاشى الدخول في ثناياه، ويبدو أنه نسي وضع لافتة بأعلى المسرح مكتوب عليها ”أحذرو الحُب“ وينقل بعض المحللين أن شكسبير كتب هذه الحكاية من وحي إحدى القصص البابلية التي كتبها الشاعر ”أوفيديوس“ - عام 43 قبل الميلاد، وتدور أحداث القصة بين شاب وفتاة وقصة الحب الممنوع - ممنوع لأسباب «ربما لا يزال بعضها موجود لغاية اليوم» مِن عدم التكافؤ العرقي أو القبلي أو الأقتصادي.. كانا يسكُنان بمنزلين متجاورين يفصل بينهما جدار مشروخ.. وكانا يقضيان الليل حتى طلوع الشمس في الحديث عبر هذا الشرخ بالجدار الأمر الذي ولّد بينهما حباً جامحاً حتى اتفقا على الهروب والزواج.. وباليوم الموعود تقدمت الفتاة للمكان المحدد، وحينما كانت بالانتظار اقتربت منها لبؤة آتيه للنهر القريب لتشرب والدم يقطُر من أجناب شدقيها، فهمّت الفتاة بالهروب ولكن وقع منها منديلها الذي تلطخ بالدم لاحقاً حينما قامت اللبؤة بشمشمته.. وحينما حضر العاشق للمكان لم يرى سِوى لبؤةً تغادر ومنديلها الملطخ بالدم، فأستل سيفه وغرزة في قلبه ضناً منه أن حبيبته أكلهتها اللبؤة.. وبعد حين عادة الفتاة المغرمة لتجد حبيبها قد أزهق روحه وبيده منديلها فما لبثت إلا أن أخرجت السيف من قلبه وغرزته في صدرها.. ربما تكون القصة الأصلية أكثر جاذبية وواقعية.
وعلى غرار هذه القصة أصبح الإعلام اليوم لا يمرر عملاً فنياً - تليفزيونياً أو سينمائياً - إلا ويحيك في اطرافه قصة حب تحبس الأنفاس تُضفي على العمل لمسته الساحرة وتزيده اقبالاً وشعبية.. والنتيجة أننا في العوالم اللاوعية تصورنا الحب كما هو على صورته اليوم.
وأقول يا سيد/ شكسبير ليس وحدها المرأة التي تُصيب الرجل بالجنون - العكس كذلك بالمثل! فالشخص الذي يقود الآخر للجنون هوَ ذلك الذي يتصور نفسه محور الكون، الأناني ذو الشخصية النرجسية.. الذي لا يبادر بالعطاء قبل أن يقبض الثمن، وبالمقابل فإن التعيس بكل علاقة هو ذلك الذي يفيض كرماً والذي غالباً ما يؤّثر رضا حبيبه على هواه.. وبرأيي فإن ما يحدد الاتجاه نحو الجنون هو بداية العلاقات التي غالباً يكون أحد قطبيها مندفعاً بالحب بكل جوارحه أكثر من الآخر.. ربما منجذباً لإحدى الزوايا الجميلة والإيجابيات بالطرف الآخر.. متناسياً وغاضاً البصر عن باقي أجزاء الصورة.. يجعله الحب أعمى «والحب بالفعل أعمى يقوده الجنون».. حيث يبدأ المسكين بتقديم تنازلات عن كُل القيم والقناعات لديه ضناً منه أن شريكه سوف يكون ممتناً ومقدراً لكل هذا العطاء - والنتيجة - غالباً لا تكون بمستوى التقدير المتوقع - ويظل هذا الطرف ينتظر في المقابل كرم صاحبه بأشكال وألوان رسمها وتخيلها في عقله.. الأمر الذي يتضح لاحقاً بأنه ضرب من ضروب الخيال لن تتحقق واقعاً.
لإندفاع الحب المجنون هذا نشوة كما الكوكايين.. تغمرك بهجة وتشعل بروحك حماسةً للحياة وتلون عالمك بألوانه الزاهية.. أنه حقاً شعور رائع يجعلك تُحلق عالياً مع السحاب، ولحظاته تساوي عمراً بأكمله.. لا تستشعر نتائجة المخيبة للآمال إلى حينما تفوق من نشوتك.. الأمر الذي ربما استهلك من حياتك جهداً كبيراً وسنين طويلة.. كما هو الحال في المقابل لدى مدمني المخدرات، يصبح وضعهم بحاجة لعلاج وتدخل اكلينيكي ونفسي لكي يشفى منه.. الأمر الذي يتطلب مجهوداً ووقتاً طويلاً غالباً ما تتقلص به الخيارات إلى المسارات المُرة فقط.
إن كنت عشت نشوة الحب هذه فهنيئاً لك ولعل الأمر يستحق ذلك، واعانك الله على دفع ضريبته.. وأن كُنت متعقلاً ورسمت الخطوط الواضحة والحمراء لعلاقتك وسارت بشكلٍ سلس كما خططت له فقد خسرت طعم الجنون الذي يمنحك لذة العيش - إنها بالفعل معادلة صعبة.
ربما أكون مُخطئاً - لكن النتيجة أن الحب في دواخلنا. متأصل بعمق في الدماغ، التحدي الذي يواجهنا من بعد أن ما عملت بنا الكيمياء فعلتها - هو أن نفهم ونتقبل بعضنا البعض.