زوار الأربعين
في ذلكَ الزّمان - الّذي ليس بِبعيد - كانَت الحافلات والطّائرات المُتَرَحِّلة إلى كربلاء مكتظّة بِالزُّوّار، ولَطالما كانَتْ كذلك، كانَتْ مليئة بِالقلوبِ الّتي أضْناها التّعب، فلِكُلِّ زائرٍ لِأبي عبدالله قصّة عشقٍ لا تُحكى ولا تنتهي، لكنّني أحبَبْتُ أن أخبركم بسرّ عن أولئكَ الزّوّار.
لم تكنْ يوماً تلك الطّائرات والحافلات تحمل غيْر القلوب والأرواح والجفون الطّاهرة، المُتطهِّرة بالبكاء على الإمام الحُسين.
فهذا الّذي كانَتْ تُغطّي عيْناه الهالات السّوداء، كان قد ترك أبناءه وعمله من أجل الزّيارة.
وذلكَ الّذي اتّخذ من كربلاء موْطِناً لِروحهِ، كان يجمع المال من عرق جبينه وتعبهِ وتنَهُّداتهِ من أجل الوصول إليها.
أمّا ذلكَ الّذي كان يجلس دائماً على نافذة الحافلة وعيْناه مُنشغلتان بِمراقبة الطّريق، أنهكتْهُ مسافات البُعد، وأنزلَتْ به أشدّ أنواع تعذيبها.
وهذا الّذي كان راحلاً في آخر سفرةٍ إلى العراق، طالبٌ ترك جامعتهُ وأصدقاءهُ وعائلتهُ من أجل الذّهاب إلى الإمام الحُسين .
أمّا ذلك الّذي ملأ الشّيْب شعر رأسهِ أراد الزّيارة لِيَهرب من العالم القبيح الّذي أنهكه لدرجة أنّ كلّ خصلةٍ من شعره صُبِغَتْ بالآهات العنيفة والصّراخ الصّاخب.
وهذا الّذي كان يحمل طفلاً بين يديهِ لمْ يستطع أنْ يجد غير الإمام الحُسين طبيباً لِوَلدهِ المريض بعدما عجر كلّ الأطبّاء عن مُداواتهِ.
وذلك الّذي كان يجلس قرب السّائق قد تعب من نفسهِ وأتى كي يُصلحها، ترك الدّنيا وهرب إلى سيّد الشّهداء مُستنجِياً به لِأنّه لمْ يعرف النّجاة إلّا بالوصول إليه.
وهذا الشّابّ الّذي لطالما ملأَتْ الدّموع عيْناه، قد وضع كلّ ما يدّخرهُ من مال في حصّالة من أجل الذّهاب إلى كربلاء، منع نفسه من الخروج مع أصدقائه وشراء ما تشتهيه نفسهُ من أجل تأمين المبلغ الّذي سيجعلهُ قادراً لِيزور العزيز، وماذا أخبركم عن ذلكَ الّذي تيَتّم، ولم يكنْ سوى الحُسيْن أباً يحميهِ، كما يفعل معنا جميعاً.
وأمّا هذا السّائق الذّي قد كرّس عمرهُ في خدمة زُوّار الإمام الحُسين ، في كلّ زيارة يركض مُسرعاً لِحافلتهِ الّتي سيوصل بها العشّاق لِمعشوقهم، وفي كلّ مرّة تبتدأ الحافلة بالاقتراب من كربلاء، كان يشعر وكأنّها المرّة الأولى الّتي يذهب فيها إلى هناك، فالحبّ الحقيقيّ أنْ تشعر في كلّ مرّة ترى فيها محبوبكَ، وكأنّكَ تراهُ لِأوّل مرّة، والّذي كان يسند رأسهُ على نافذة الطّائرة قد خذلهُ الجميع ولمْ يُحضنْه أحد، امْتلأ قلبهُ بالخيْبات الفجيعة، فلمْ يجد غير موْلاهُ الإمام الحُسين كتفاً يُسندهُ وحُضناً يحميه ومؤنساً يطمئنهُ في وسْطِ وِحْشتهِ.
جميعهم كانوا يترحّلون من أجلهِ، كانوا يهربون من الدّنيا ويذهبون إلى كربلاء لِيختَبِئوا في قلب الإمام الحُسين ، لِأنّهم يروْنَ فيه الطّبيب والحبيب والجليس والأنيس والأب الحنون والعطوف ونِعْمَ الأمير، يروْنَ فيه الاكْتفاء عن العالمين، جميعهم كانوا يذهبون لِزيارتهِ بكلّ الثّقة أنّه لنْ يخذلهم أبداً.
أمّا الآن... كربلاء خالية، لكن صدّقوني أنّها مكتظّة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، مكتظّة بالأرواح العاشقة، بالدّموع الهائمة الّتي تنهمر على قلوبنا قبل وجوهنا، بالقلوب الّتي تصرخ صراخ المستصرخين: ”لبّيْكَ يا حُسين“، ذلك الإمام العظيم، القِدّيس، لمْ يكنْ يوماً وحيداً، ولنْ يكون، كربلاء لم تكنْ يوماً خالية، ولنْ تكون، نحن الفارغون، وليس بين الحرميْن، كَذَبَ مَنْ قال أنّ حرم العزيز خالٍ من الزّوّار.
يا هذا، ماذا دهاك، أتُدركُ ما تقول؟! كفاكَ هُراءاً، حُبًّا بالله، إنّ أكثر الأماكن اكْتظاظاً في العالم، هي تلكَ الجنّة، كربلاء العزيزة جدًّا، مكتظّة بكم، ببكائكم، بآهاتكم وصرخاتكم، بضحكاتكم وبسماتكم، بماناداتكم ”يا حُسين“، مكتظّة بقلوبكم وأرواحكم الجميلة جدًّا، الّتي يسكنها الإمام الحُسين، أوَلا تعلمون أنّ القلوب الّتي يسكنها الإمام الحُسين تنام كلّ ليلة في مقامهِ؟!
أوَلا تعلمون أنّكم عندما تغفون بعد شِجاءِ بُكاءٍ مُشتاقٍ للزّيارة، يأتي الإمام بِأرواحكم إلى كربلاء؟! أوَلا تعملون بأنّكم تزورونه دائماً؟! أجل يا عشّاق الحسين، أنتم قد رُزِقتم عشق أقدس وأحنّ ما خُلِقَ في تلك السّماوات والأرضين، أوَيُعقَلْ بأنّ الأحنّ على الإطلاق لنْ ينظر إلينا عندما نشتاقه؟! فقط ضعوا أيديكُمْ الّتي كَفْكَفَتْ دموعاً ثِقال على قلوبكم الوالِهة، ونادوا: ”يا ربّ الحُسين، اشْفِ شوْقنا بحقّ الحُسين“، وانْظروا إلى الرّحمة العظيمة الّتي ستنهمر عليكم.
لكنْ أرجوكم، لا تقولوا بأنّ كربلاء خالية، لأنّ ذلك سيقضي على آخر الأجزاء الّتي بقيَتْ من زوّار الإمام الحُسين، وخاصّة زوّار الأربعين الكِرام... المشّاية