حين يُصيب العفن القلب... فيُصاب بالمكر السيء والخُبث
لا شيء اجملَ ولا اروعَ من قلوب طيبةٍ نقية طاهرة ونية صالحة، ومن نفسٍ تقية تؤمن بخالقها وتخشاه دائما في الضعفاء من البشر في السر وفي العلن، وعلى النقيض من ذلك فلا شيء أقبح ولا أسوأ من قلوبٍ سوداء خبيثة ومُتغيرة ونية فاسدة، ونفس مُنافقة، تهوى الشر وتثُير المشاكل والفتن، وتجد في الطُرق الملتوية وفي أسلوب المكر والخبث ضالّتها وراحتها المنشودتين.
قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۖ وَمَكْرُ أولئك هُوَ يَبُورُ﴾.
إنّ أسوأ ما يمكن أن يكون عليه أي انسان هو أن يكون ماكرا أو خبيثا، او حين تجتمع كلتا السيئتين معا في شخصيته، والمقصود بالمكر: الخديعة، وهو المكر الذي يهدف من اتصف به واتخذه أسلوبا في حياته إلى استغلال غفلة الطيبين من البشر ومن يختلفون عنه في الفكر والطباع ومكنونات النفس والروح، حيث يقُصد به التخطيط والتدبير بُغية هدم العلاقات المتينة المترابطة ونشر مشاعر البغضاء والكراهية، وإلحاق الأذى بمن قصدهم في الخفاء بعيدا عن الأنظار والأسماع وغيرها الكثير من مقاصد الماكر الحقيرة والدنيئة، فهو شخص يُظهر خيره ويُخفي شره وقد جعل من النفاق والخداع والتلفيق دستورا في حياته وركيزة أساسية في تعامله مع المحيطين من حوله، ومصلحته الشخصية فوق كل اعتبار وفوق كل مصلحة أخرى، فهو لا يُحب الحق ولا الخير، ويحاول دائما الوصول إلى مُراده بطرق ملتوية وغير سليمة، لن يعيش بسلام دون أن يحتال أو يكذب، لا يهمه إن تقلّد أعلى المراكز والمراتب عن طريق الغش والكذب، كما لا يكترث حين يكثر حوله المُحبون والمؤيدون له، حتى وإن أصبح شخصية اجتماعية محبوبة وهو يُدرك في أعماق قلبه حقيقة نفسه المُخادعة، بل الأهم عنده هو أن يتحقق هدفه ويُصير واقعا ملموسا أمامه يعيشه بُكلّ حواسه.. مهما كلفه ذلك الامر من جهد وتعب.
لابد وان نعرف بأن المكر السيء واحدٌ من مجموعة الامراض القلبية الروحية والنفسية التي تنموا نُموّاً خبيثا داخل النفس البشرية، فهو سيّد المساوئ واقبح ما يمكن ان يُصيب القلب، فقلب من اتصف بالخبث وبالمكر الشديد ملوث ومتعفن ومهترئ، فحين يكون الماكر الخبيث مع جماعة من الناس لا يخوض معهم في نقاشهم، إذ يتظاهر بأنه لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم وبأن ما يقولونه هم لا يعنيه مطلقا، وحين ينصرف عنهم يُفشي كل ما سمعه وما راه منهم بالنميمة بنية الافساد والايقاع فيما بينهم، كما انه لا يثق بأحد ولا يحب سوى نفسه والانانية من صفاته أيضا فنواياه سيئة، هو يتظاهر بالهدوء والاستقامة والرزانة دائما وهو احقر الحقراء وأخبث الخبثاء ولا يعرف قلبه مخافة الله، فهو كاذب متعمد للكذب يحلف ويُقسم كذبا وزورا، يُزيف الحقائق لتتطابق مع ما يريده هو خدمة لمصالحه الشخصية، لا يمكن ان يكون صادقا او عفويا او واضحا، فقد يُصور نفسه ضحية وهو الجلاد، هو لا يعي ولا يُدرك هو نفسه ذلك لأنه عوّد نفسه على أن يكون ماكرا طيلة الوقت، فالنفس البشرية حين تُعوّد نفسها على فعل شيء سيء وغير مرغوب فيه، او تقوم بعمل يُخالف تكوينها الفطري وطبيعتها الخيّرة اللي جًبلت عليها، تعمى عندها البصيرة وتفقد الإحساس بان ما تفعله من مساوئ وخطايا وما تتصف به من خصال غير حميدة وغير سوية أمر طبيعي، فلا يبقى الذنب ذنبا ولا الخصلة السيئة سيئةٌ في تصوّرها.
إنّ نوايا الانسان الماكر والخبيث عادة ما تكون نوايا شريرةِ وخبيثة، فالمكر يحول الماكر إلى كائن مجرم فاسد النوايا، فلا يستطيع من كان خبيثا وماكرا مكرا سيئا الا ان يكون كذلك مهما حاول ان يُصلح نفسه او يتظاهر بأنه من خيرة الناس وبأنه صالح وشريف والخبُث والمكر يسري في داخله كسريان الدم في عروقه وشرايينه، والمصيبة تعظُم ُاذا عاشر الخبيث الخبثاء على شاكلته، فيظل يستنشق من دخان الخبث طالما جالسهم وخالطهم، فيتعلم منهم دروسا اضافيه في الخباثة، فتزدادُ حينئذٍ خباثتُه فيصعب عليه بعد معاشرتهم أن يصبح انسانا نظيفاً وطاهرا.
مهما بلغ مكر الماكر الخبيث مستوى مرتفع وأتقن التمثيل والتظاهر بأنه من الصالحين والطيبين والاخيار فالمكر يظهر عليه، ولا يُلاحظ ذلك سوى أصحاب العقول اللبيبة والراجحة العقلاء والفُهماء.
لا تتوقع عزيزي القارئ لهذه السطور بأنّ المكر من طبيعة البشر أو أن جميعهم مَكَره، بل على العكس فإنّ الماكر يختلف عن الاخرين وعمن يحملون قلوبا طاهرة، والاختلاف هاهنا ليس اختلافا يرقى لمستوى تميزه عن غيره مطلقا، بل انها منقصة في حقه، وسوء خلق، ومذمة يُذم عليها.
الماكر الخبيث لا ينتقي أقرانه بصورة عشوائية، وستجد أكثرهم لا يُشبهونه في حدّة المكر والخبث لذا فطريقه لإقناعهم بصلاحه والضحك على مشاعرهم لكي يصدقوا ما يقول عليه سهلٌ يسير. وبالمقابل تجد ان بعضهم «أي البشر»، يحبون مجالسة ومصاحبة من يتصف بالمكر السيء والخُبث، ويستأنسون لحديثه ويستمتعون برفقته، لأنهم على شاكلته ومن نفس طينته ذلك لأن شبيه الشيء مُنجذب اليه.
كلما ازداد مكر الماكر الخبيث، وتوغّل المكر في كل كيانه لدرجة يصبح فيها مكره مطلب أساسي في سلوكه وفي كل ما يقوم به، انبثقت منه صفات أخرى غاية في السوء ليتحوّل إلى منافقٍ وكاذبٍ وظالمٍ ومُجرمٍ وعنيدٍ وقاسٍ، وساخرٍ وحاقد وانتقامي، وكل همه أن يُباعد بين الخلان والارحام والاحباب، يمشي بالنميمة وتحلو له الغيبة، وبممارسته لذلك تكون نفسه قد تلفت، وقلبه قد تعفّن، فتشتدّ مع مرور الوقت حالة المكر السيء فيه، فيغدو كارها للأخيار ولكل خير، ومُحبا للأشرار ولكل شر، فمن المستحيل لقلبٍ أن يؤمن بالله وباليوم الاخر وصاحبه يمتلئ مكرا وخبثا.
يبدأ الاستفهام هنا وهو، لماذا يلجأ الماكر لأسلوب المكر في تعامله مع الاخرين؟ هنالك هدفان لذلك، اما أنه يهدف للحفاظ على صورته وسمعته في قلوب الناس والتي خدعهم بها سنين طويلة، فهو قد بذل جهدا لكي يظهر في النهاية بمظهر الصالح الطيب المحب للخير دائما، هذا واحد من أهدافه اللي يصعب التكهُّن بها حقيقة، فهو ليس كباقي البشر بالطبع، اما هدفه الثاني في ظنّي، فهوانه يلجأ الى أسلوب المكر الخبيث ربما حينما ينوي القيام بعمل شيطاني مجرم او ليُحقق رغبة شيطانية في أعماق نفسه كسعيه لإذكاء نار الحقد في نفوس البعض على البعض الاخر ليؤجج الكراهية التي تؤدي الى قطع الصلة فيما بينهم، فيلجأ للمكر حينها ليتحقق ما يصبو ويسعى اليه وبصورة خفية.
المكر موجود في مجتمعنا وهو منتشر بين فئة كبيرة من الناس من مختلف الاعمار، ولتعرف الماكر عليك ان تعرف أولا بانّه لن يكون صادقا ولا واضحا ولا صريحا ولا طيّبا، ولن يأمرك بمعروف او ينهاك عن منكر، فالمكر صفة شيطانية لا علاقة لها بالأخلاق الكريمة الرفيعة أو بالسلوك الحسن أو بالإيمان بالله اطلاقا.
لا ينفع مع الماكر سوى المكر، ولا يُقابَل المكر السيء الا بمكرٍ مثله او أشدّ منه «المعاملة بالمثل»، كن ماكرا معه، قلده في تصرفاته وانتبه لما يقول وركّز في كلماته واستعمل جزءا منها وأنت برفقته ولو كنت مُجبرا او مُكرها على ذلك، صحيح ان هذا سيُضايقك وسيُتعبك بينما هو وقد تعوّد على المكر والخبث فسيعُجبه الوضع هكذا ولن يشعر بالكلل او بالملل او حتى بالانزعاج ولكن لا تيأس، قد تُفلح في تغييره ولكن ايّاك أن تكون مُتأكدا من نجاحك في تغييره وإصلاحه، لأنّ الماكر عنيد ويُجيد العناد والرد بالمثل، وفي كل مرة سيبتكر أسلوبا جديدا وكذبة جديدة ليكون اقوى منك او يهزمك بمكر أشدّ وأعنف، حين يفهم بأن مكره قد أدّى مفعوله فيك ونجح في مضايقتك واستفزازك، وكلما شعر او احس بأنك تجاريه في مكره يزداد مكرا ودناءة لكي يهزمك بمكره، وبما انه مريض قلبيا وروحيا فهو سيُريك كم هو اكثر مكرا ودهاء منك، وبأن لا احد سيهزمه لا انت ولا غيرك، هذا هو سلوك الماكر للوصول الى أهدافه وهو ارهاقك وتحطيمك نفسيا ومعنويا فالماكر خبيث وحقير يمارس كيده ومكره ببرودة في الاعصاب لا مثيل لها وتذكر وانت معه قول الله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
ولا أنسي ان اذكر أنّ الماكر قد يلجأ الى حيلة خبيثة ويدّعي بأنه قد تعرّض للإساءة ويتعين عليه ان يرد بمثلها وهذا كله ينبع من خبثه، فلو لم يكن ماكرا بطبيعته بالفعل لما فكّر في ردّ الإساءة بإساءة أكبر منها ولا فكر في التخطيط والتدبير للانتقام خفية، فهو قد يستمر في انتقامه لسنوات عديدة دون ان يفقد صبره او ينسى. في كل مجتمع تعيش شريحة من الناس تتصف بالمكر الخبيث السيء وشريحة تتصف بالطيبة والخصال الحميدة وكل ما عليك هو الحذر كل الحذر من الماكر الخبيث، لأنك ان تعاملت معه فكن متأكدا بانك تتعامل مع انسان مجرم، كل هدفه إرضاء نفسه وتحقيق غاياته، فهو لا يحب أحدا بقدر ما يحب نفسه المريضة.
إنّ المكر السيء رأس كل الشرور التي ارتكبها وسيرتكبُها ابن آدم، الخبث والمكر يجمعهما شيء واحد وهو «بطلان النية»، إن من اتصف بالمكر والخبث والخداع صار حتما واحدا من الأشرار والمجرمين والانانيين والمُستهزئين الناكرين للبعث وللحساب، ومن المُنافقين والمُعاندين والمُرائيين والشياطين والكاذبين والظالمين وسائر السيئات، لقد تعفنت قلوب هؤلاء التي في الصدور قبل أن تتعفن في القبور!!.
في نهاية الحديث أشير إلى أمر مهم للغاية وهو أنه مهما بلغ مقدار وحجم مكر الماكر الخبيث حدةً وشدة، ومهما تمكّن من إلحاق الضرر بالآخرين ونجح في ذلك خفية ومن وراءهم، ونفاقا وتصنّعاً وتجمّلاً امامهم استخفافا بهم، فلن يحيق مكره الا به، بمعنى وكما بحثتُ عنه انه سيُحيط به إحاطة سوء من جميع الجهات فلن يقع أثره الا عليه هو وسيكون في الاخرة حتما من الخاسرين، وتذكر عزيزي القارئ دائما بانه مهما تألمت ووقعت ضحية لمكر الماكر وخبث الخبيث. تذكر ما قاله الله تعالى عن المكر وصدق الله العليّ العظيم حين يقول: ﴿اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾ وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ﴾.