من أجل تفاهم مشترك
جاء في التراث أنه كان هناك أربعة من الفقراء جالسين في طريق، وكل منهم من بلد: أحدهم رومي، والثاني فارسي، والثالث عربي، والرابع تركي، ومر عليهم محسن فأعطاهم قطعة من النقد غير قابلة للتجزئة، ومن هنا بدأ الخلاف بينهم، يريد كل منهم أن يحمل الآخرين على اتباع رأيه في التصرف في هذا النقد. أما الرومي فقال: نشتري به «رستا فيل» وأما الفارسي فقال: أنا لا أرى من «لا نكَور» بديلا، وقال العربي: لا والله لا نشتري به إلا «عنبا»، وقال التركي متشددا في لهجة صارمة: إن الشيء الوحيد الذي أرضى به هو «أوزوم»، أما ما سواه فإني لا أوافق عليه أبدا. وجر الكلام بين الأربعة إلى الخصام، وكاد يستفحل الأمر لولا أن مر عليهم رجل يعرف لغاتهم جميعا، وتدخل للحكم بينهم، فبعد أن سمع كلامهم جميعا، وشاهد ما أبداه كل منهم من تشدد في موقفه أخذ منهم النقد واشترى به شيئا، وما إن عرضه عليهم حتى رأى كل منهم فيه طلبته، فقال الرومي: هذا هو «رستا فيل» الذي طلبته، وقال الفارسي: هذا هو «لا نكَور» وقال العربي: الحمد لله الذي أتاني ما طلبته! وقال التركي: هذا هو «أوزوم» الذي طلبته. وقد ظهر أن كلا منهم كان يطلب العنب من غير أنت يعرف كل واحد منهم أنه هو بعينه ما يطلبه أصحابه.
لا ريب أن قراءة هذه القصة تثير الضحك وروح الفكاهة، وتثير الاستغراب والاستهجان في آن واحد. من جراء الاختلاف والنزاع الذي حدث بين هؤلاء الصحبة دون وجود مبرر عقلي وواقعي للخلاف والنزاع. فالكل يطلب العنب إلا أن اختلافهم اللغوي حال دون تفاهمهم المشترك، مما أدى إلى الخصام على موضوع أقل ما يقال عنه أنه وهمي. ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: أن الكثير من الاختلافات والتباينات بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد، لا تخرج عن مضمون القصة المذكورة أعلاه. بمعنى أن الكثير مما نتصوره من اختلافات بيننا هو من جراء مواقف مسبقة أو رؤية جاهزة حملناها على بعضنا البعض، دون أن نكلف أنفسنا عبء فحص هذه الرؤية أو تجاوزها بشكل علمي وموضوعي. والإنسان الذي ينحبس في إطار رؤية ضيقة، فإنه سيتعصب لرأيه دون أن يدرك حجم الجوامع المشتركة بينه وبين الآخرين. فحين ينعدم التواصل، وتتضاءل فرص التعارف فإن مساحات سوء الظن والفهم تتسع وتتراكم.
لذلك فإن التواصل بين مختلف مكونات المجتمع وتعبيراته المتعددة، هو من الروافد الأساسية التي تساهم في تعزيز خيار الوحدة والتضامن الداخلي. فوحدة المجتمعات والأوطان بحاجة بشكل دائم إلى التواصل والتعارف المباشر بين مختلف المكونات والشرائح. وذلك حتى تبنى الوحدة على حقائق المعرفة العميقة المتبادلة. وبدون هذه المعرفة سنجد أنفسنا نختلف وتتباين مواقفنا حتى لو كانت غايتنا واحدة.
فالهدف المشترك بوحده لا يصنع وحدة، وإنما هو يحتاج إلى مساندة مستديمة عبر التعارف والتواصل الذي يزيل الالتباسات والهواجس ويحول دون الفرقة المذمومة.. وتاريخيا لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري ونبذ أشكال التعدد والتنوع الطبيعية في الوجود الاسلامي. وإنما صنع المسلمون وحدة، قامت على احترام التنوع وخصائص التعدد، لأنها حالات وحقائق تاريخية، مركوزة في التكوين النفسي والاجتماعي، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. لأن الباري عز وجل قد خلق البشر مختلفين من نواح عديدة: لتكونهم من ذكر وأنثى ﴿وإنه خلق الزوجين الذكر والأنثى﴾ وهم مختلفون لاختلاف ألسنتهم وألونهم ﴿ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم﴾ كما هم مختلفون لاختلاف عقائدهم ﴿هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ وعلى ضوء هذا الاختلاف والتنوع، تنشأ الوحدات الاجتماعية، لكن لا لكي تتباعد عن بعضها، وإنما لكي تتعارف.
فالتعارف هو المنظور القرآني، لتجاوز الآثار السيئة والسلبية لحالة الاختلاف والتعدد. قال تعالى ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ ..
فالاختلافات العقدية والفكرية والسياسية، تزداد اتساعا، وتأخذ منحى تصاعديا وفي بعض الأحيان عنفيا، حينما تتراجع خطوات التفاهم وتغيب حقائق التلاقي والتواصل بين المختلفين. بينما التلاقي والتفاهم والتواصل، يساهم في ضبط الاختلافات، ويحوله إلى رافد للثراء المعرفي والفكري، وترتفع من الفضاء الاجتماعي كل الهواجس والأكاذيب التي تسمم العلاقة وتدفعها نحو دوائر وخيارات خطيرة.
ولقد دفع المسلمون جميعا غالي الأثمان من هواجس بعضهم البعض، ومن الأكاذيب والافتراءات التاريخية والراهنة، التي ساهمت بشكل مباشر في تأجيج النفوس وزيادة الاحتقانات بكل صورها وأشكالها.
وأود في هذا السياق أن أؤكد على النقاط التالية:
1/ ضرورة العمل على تطوير التواصل العلمي والثقافي بين مكونات المجتمع والوطن الواحد.. فكل طرف في هذا المجتمع يمتلك من الكتب والمؤلفات الثمينة الشيء الكثير، ويعيش بين ظهراني هذا المجتمع العديد من العلماء والمفكرين والكتاب المتميزين. ولكن وبفعل الجفاء المتبادل، وغياب حقائق التلاقي والتواصل، كل طرف يجهل حقيقة الآخر، أو لا يمتلك رؤية واقعية عنه..
وإننا نعتقد أن القيام بمبادرات حوارية وتواصلية بين حكماء المجتمع وعلمائه، سيفضي إلى فهم متبادل عميق، قادر على إفشال كل مخططات الفتية والتشظي. ويشير إلى هذه المسألة أحد العلماء بقوله: إن توحيد المسلمين ثقافياً لا ينافي أن تعمل كل طائفة من الطوائف الإسلامية بما ثبت عندها واعتقدته، ما دام هذا لا يمس العقائد الأساسية، التي يجب الإيمان بها، ولكن من الواجب أن تعرف كل طائفة من المسلمين حقيقة عقائد الآخرين، لعلها تجد فيها ما تستفيد منه، أو على الأقل إذا أراد أحد باحثيها أن يكتب عنهم شيئا، أو ينقل بعض فتاواهم، فلا يكتب وأما ما سمعنا عنهم أنهم يقولون كذا وكذا أو أنه يقال عنهم كذا وكذا. ولعمري أن هذا لسبة في جبين العلم أن لا يتعب رجاله أنفسهم بالبحث عن كتاب يجدون فيه كل ما يبحثون عنه، من غير أن يسندوا أقوالهم إلى السماع، وكثيرا ما يجيء هذا القول المسموع من ذوي الأغراض الخبيثة.
لو أن التعارف بين المسلمين تم على أساس توحيد الثقافة، بما في ذلك التبادل الثقافي، وتأليف كتب عن كل طائفة لإعطاء صورة صحيحة عنها، وتعليم اللغات الإسلامية في جامعاتهم وترجمة آثارهم ورجالهم، لعرف المسلمون أنفسهم، وعلموا قوتهم ومقدرتهم، وأنهم مسلمون قبل كل شيء، مسلمون في كتابتهم وتآليفهم، مسلمون في قصصهم وأشعارهم، وأنهم أمناء فيها يكتبون..
فالحوار والتواصل بين مختلف التعبيرات والمكونات لا يلغي الاختلافات والتباينات، وإنما يوصل الجميع إلى أفضل صيغة ممكنة لإدارة الاختلافات وضبط الانقسامات والتباينات. فالتعددية على حد تعبير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية في تقريرها الموسوم ب «التنوع البشري الخلاق» ليست مجرد غاية في حد ذاتها، فالاعتراف بالاختلافات ما هو إلا شرط لبدء الحوار، وبالتالي لبناء اتحاد أوسع نطاقا بين أناس مختلفين. وعلى الرغم من المصاعب فإننا نواجه مصيرا محتوما، فلا بد من إيجاد سبل للتوفيق بين تعددية جديدة ومواطنة مشتركة. وقد لا يكون الهدف مجرد مجتمع متعدد الثقافات، بل دولة تتألف من ثقافات متعددة، دولة يمكن أن تعترف بالتعددية دون أن تفقد وحدتها.
2/ إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدد الأمن الاجتماعي والوطني، يتطلب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية، ويوظف كل إمكانات الوطن ويصبها في خدمة المشروع، وينفتح على كل الخصوصيات الثقافية، ويتفاعل ويستفيد من كل القوى والوسائط الثقافية والاجتماعية الموجودة، ويتواصل مع منابع الفعل الثقافي بتنوعه ومستوياته ومجالاته وآلياته القائمة والممكنة.
وبكلمة: إن تحصين الوطن من المخاطر، يتطلب بلورة حياة ثقافية جديدة تتجاوز صعوبات الواقع وسيئاته، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد التواصل والحوار والانفتاح على كل مكونات الفعل الثقافي والإبداعي الوطني. فالتحصين لا يتأتى بالمنع وزيادة قائمة الممنوعات، بل بغرس أسباب الحياة والحيوية في حياتنا الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع الراكد، هو أقرب المجتمعات إلى الاختراق على المستويات كافة. أما المجتمع الحي، والحيوي، فإنه يمتلك الدينامية الكافية التي تؤهله لمقاومة كل الأخطار ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدد أمنه الاجتماعي والوطني.
فوجود الحياة الثقافية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم الأمن الاجتماعي والوطني. فحيوية المجتمع وديناميته، هو رهاننا لمجابهة كل التحديات والمخاطر لذلك فإن عملية التحصين الوطني، تتطلب منا جميعاً، تنمية الاستعدادات والإمكانات الثقافية الوطنية، التي تأخذ على عاتقها معالجة الظواهر المجتمعية، واستيعاب أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم في أطر ومؤسسات، تنمي كفاءاتهم، وتصقل مواهبهم، وترفع من مستوياتهم وتشاركهم في صياغة حاضرهم ومستقبلهم.