المثقف والمجتمع والسلطة
أثار الحديث الذي نشر قبل ثلاثة أسابيع، والذي حمل عنوان «المثقف العربي والعلاقة بين السياسة والتاريخ»، جدلاً لدى بعض الأصدقاء، حول دور المثقف العربي، في صناعة التاريخ. ومن وجهة نظرهم، فإن المثقف العربي، لا حول له ولا قوة، في تقرير مصير الحاضر والمستقبل، وأن الأمر جله هو بيد صناع القرار.
وفي يقيني، فإن التقليل من دور المثقف العربي، من قبل البعض، ربما يجد له ما يبرره، في هذه المرحلة، من تاريخ العرب المعاصر؛ حيث بهت دور المثقف، نتيجة لأسباب عدة، لعل أهمها التجريف الذي مورس بحق الحركة السياسية العربية، وأفكارها، وتغييب دور الطبقة المتوسطة، الملهمة في الفنون والفكر والأدب، وأيضاً بسبب انخراط عدد لا يستهان به من النخب الثقافية في الصفقات الاحتيالية، التي تزامنت مع تحول المجتمع العربي في معظم أقطاره، من النمط المنتج، إلى نمط المستهلك، والاكتفاء بلعب دور الوسيط.
يضاف إلى ذلك، أن عدداً لا يستهان به من المثقفين العرب، فضل التشرنق في أبراج عالية، بعيداً عن المجتمع، وموروثه وتقاليده وأعرافه والعناصر التي صنعت تاريخه. وقد أدى ذلك إلى حالة من الانفصام والتناقض بين التوق لتغيير الواقع الاجتماعي، وبين الانعزال عن هذا الواقع.
لقد مثل المثقف تاريخياً وباستمرار، حالة متقدمة في الوعي، ضمن المجتمع الذي يعيش فيه. وفي القارة الأوروبية صاغ المثقفون والمفكرون مشروعات سياسية وفكرية كبرى، أسهمت في هزيمة الإقطاع، وقيام أنظمة وضعية رفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة، ورسمت صورة العالم الراهن. ومسؤولية المثقف الراهنة هي صناعة وتجديد الفكر، بما يخدم مشروع التقدم والبناء والنهضة.
خروج المثقف العربي من أزمته، يكمن في معادلة دقيقة، ترجمتها أن يعتبر نفسه ضمير وطنه وأمته، في مجال الفكر والممارسة على المجتمع الذي هو جزء من مكوناته، وفي نفس الوقت، يبقي التواصل مفتوحاً بينه وبين هذا المجتمع وثقافاته. وإذا لم يوفق المثقف في هذه المعادلة، فالنتيجة هي عزلته، وعندها يكون كمن يخاطب نفسه. وفي هذه الحالة يكون نتاجه ترفاً فكرياً محضاً، ليس له علاقة بالواقع، ولا بهموم الناس. ذلك لا يعني أن يقحم المثقف نفسه في التفاصيل اليومية في مجتمعه. فالقراءة الدقيقة، لواقع المجتمعات، من قبل المثقف، لا تشترط، الانهماك في التفاصيل الصغيرة، وإنما تنطلق من قراءات استراتيجية، لبنية المجتمع، والعناصر التي تسهم في صنعها.
ومن نافلة القول، إن نجاح أي مشروع ثقافي هو رهن بقبول نسبة يعتد بها من الناس، لهذا المشروع. ولا يستثنى من ذلك، كل المشاريع الإبداعية، من فكر وثقافات وفنون، وما إلى ذلك من أنشطة.
ويقينا أننا جميعاً نتاج المجتمع الذي نعيش فيه. وفي الغالب لا يوجد فينا فرد من ليس لديه انحياز لمجتمع أو فكرة. المهم أن ننطلق من الثوابت الوطنية، التي يشكل خدشها إضراراً بالمجتمع، واهتزازاً لاستقراره. ولذلك ينبغي أن يتسامى المثقف على الانتماءات الصغيرة، ولا يقحم نفسه فيها. إن عليه أن يكون قريباً من الرأي العام، مع النأي عن الخيالات والأوهام، التي تعشعش في كثير من المجتمعات، التي لا تزال في طور التطور والنهوض. والمثقف إن تخلى عن أخذ المجتمع إلى الحالة المتقدمة في الوعي، التي تمكن من حيازتها، يفقد وظيفته كمثقف. وبذلك تتحقق عزلته، عن مجتمعه، وعندها لا تساوي كتاباته، قيمة الحبر المسكوب فيها.
لا يمكن على سبيل المثال، اعتبار من يروج للطائفية، أو يخدش وحدة الوطن، أو يساند التطرف، أو من ينطلق من تعصب أيديولوجي، أو انتماء فئوي وعشائري في خانة المثقف العضوي. وليس من توصيف لكل من يستثمر قلمه، للإضرار بمصالح الناس، والوحدة الوطنية، سوى أنه شخص سلبي، ومؤذ في سلوكه ورؤاه.
في الأربعينات من القرن الماضي، ميّز المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، بين نوعين من المثقفين: بين من وصفهم في بعض أدبياته بالانتلجنسيا، أو الارستقراطية الثقافية، التي ترى نفسها فوق المجتمع، وأن لها استحقاقات خاصة، وبين ما أطلق عليه بالمثقف العضوي، الملتزم بهموم الناس والدفاع عن قضايا أمته ووطنه.
المجتمعات النامية، وضمنها مجتمعاتنا العربية، أحوج ما تكون للمثقف العضوي، فهو بحماسه وحيويته وممارسته للصدق، والتزامه هو الأقدر ليس فقط على صياغة مشاريع البناء والتنمية والتقدم؛ بل والإسهام في التوجيه والنقد البناء لكافة أنشطة المجتمع. والانخراط في مسيرة التقدم البشري المتجهة إلى الأمام.