شعراء لا يشعرون!
ما من أُمةٍ استطاعَت إنقاذ روحها من الفناء وتاريخها من الانطفاء إلا وكان الشعر طوق نجاتها، وصورةُ ماضيها، وصوت حاضرها، وحامي حمى لُغتها التي تُعتبر أولى ركائز هويتها. بالشعر سطَّر الإغريق ملاحمهم، وذرف الإنجليز على المسرح دموعهم، وتغنى الفرنسيون بثورتهم، وبه اختزن الهنود والصينيون والعرب خُلاصة حكمتهم وعُصارة تجاربهم كما يختزنون أغلى ما يملكون من مالٍ للأجيال، لذا كان الشعرُ غاليًا لا ينبثق إلا عن قرائح نادرةٍ غالية، ونفوسٍ صافية، وبصائر واعية، وعقولٍ مُستنيرة.
تبدَّلت الأيام بالأيام، ومع اتساع رُقعة التفاهة ذابت الحدود الفاصلة بين القوي والضعيف، وبين الثمين والسخيف، وتضاءل الاهتمام الجاد بالشاعر الحقيقي الموهوب، الذي يولد وقد مسَّت يد الإبداع روحه ببركاتها لتتجلى على ملامح شخصيته في مرحلةٍ مُبكرة قبل أن يصقلها بالمهارة ويُهذبها بقوانين علم المعاني والبيان والبديع ثُم يُدللها بالموسيقى الداخلية والخارجية لترفل بذاك السحر القادر على جذب مسامع المُنصتين، ذاك الشاعر الذي قال عنه الأديبُ ابن رشيق القيرواني: ”وإنما سُمي الشاعرُ شاعرًا لأنه يشعُر بما لا يشعُر به غيره“.
من هُنا تبدأ كلمة السر، من ”الشعور الاستثنائي“ بتلك التفاصيل التي لا يراها الآخرون، وإن رأوها اعتبروها عادية تافهة لا تستحق وقفةً أو التفات، وما لم يوهَبَ الإنسان تلك المَلَكة الاستثنائية فلا مكان لانبثاق الشعر من وجدانِه وإِن رافَق الشعراء، وصَاحب الأدباء، وكان وجهًا مألوفًا من حاضري المُناسبات الأدبية والأمسيات الشعرية، وأقصى ما يُمكنه بلوغه من إنجازٍ يُمكن احترامه إن كان صادق النية واثق العزم مُجتهدًا أن يكونَ ”ناظِمًا“ لا ”شاعرًا“، لكننا بتنا نرى من لا يملكون من الشعر حظوة، ولا يبذلون جهدهم ليتقدموا في النظم خطوة.
قد يتنازل الشعر العربي المُعاصر عن عموديّة قصائده باعتبارها شكلاً ووزنًا وقافية، لكنه إن تنازَل عن موسيقاه الداخلية والخارجية فقد ثُلثي حياته، وإن تنازل بعدها عن ”الصور الخيالية“ التي هي روح الشعر وأصله ونواته فقد كُل حياته.
ما الشعر إن لم يُنبِت لمشاعرنا جناحين مُحلقين في عالم الخيال؟ ما الشعر إن لم نشعُر بتلك الرَّهبة الصارخة في بيت المُتنبي: ”إذا رأيتَ نيوبَ الليث بارزةً... فلا تظُنن أنَّ الليثَ يبتسمُ“، ما الشعرُ إن لم يوقد في أعماقنا حِرقة أبي فراس الحمداني حين قال: ”تكادُ تضيء النار بين جوانحي... إذا هي أذْكَتها الصَّبابةُ والفِكرُ“، وما الشعرُ إن كان دون جُرأة وكبرياء أبي فراس وهو يهتف في أسرِه: ”إذا مت ظمآنًا فلا نزَلَ القطرُ!“.
ما أعجَب أولئك الذين يُذهلهم السحر الكامن في معاني أشعار الشعراء، ويُعييهم المجيء بمثلها أو أدنى منها بيانًا، ويُعجزهم الإتيان بمحسنِ بديعي للنثر فضلاً عن الشعر، ثم لا يبذلون جهدهم للبحث عن سبيلٍ لتجويد مهارة النظم وتلطيفها بالمحسنات اللغوية، ولا يمكنهم تجاوز تلك البلادة المشاعرية التقليدية في نظرتهم للأشياء وتفاعلهم مع الأحداث، تلك البلادةُ التي تبقيهم في مصاف عامَة الناس ممن لا يمكن أن يكونوا شعراء لأنهم ”لا يشعرون بما لا يشعر به غيرهم“؛ ثم يزعمون أنهم شُعراء!