قلب كالألماس
عيناه مفتوحتان تشاهد المارة، لكن تركيزه يسبح في فضاء التخيلات، يجلس في حديقة منزله الخارجية، ورغم لطافة الأجواء كانت ملامح وجهه توحي بالكتمة والاختناق، صادف هذا الوقت مرور جاره الذي تربطه معه علاقة قوية، جيرة عمرها 36 سنة، فسأله مباشرة عن أحواله فلم تسره حالته البتة، فلقد اعتاد على مشاهدة جاره ببشاشة محياه دائما.
بدأ «أبو يوسف» بسرد ما حدث إلى ابنه الأكبر، حيث تم طرده من عمله، بسبب خلاف دار بينه وبين مجموعة من العمال الأجانب حيث تعاونوا بشهادة زور بغية فصله من العمل، ونجحوا بذلك، هذا الولد يعيل زوجته وأولاده ووالديه، بالإضافة إلى ديون البنوك التي بقيت طرق سدادها مجهولة.
سكت لثوان وأكمل حديثه حيث قال «لقد حاول ولدي التحدث مع رئيس قسمه ليقف بجانبه ويطلب من المدير معاودته للعمل لكنه رفض التدخل في ذلك، وكم كانت الأيام الثلاث الماضية ثقيلة وأنا أرى ولدي بضيق وحسرة؟ فأنت تعلم صعوبة الحصول على عمل جيد هذه الأيام، ونسأل الله أن يكشف هذا البلاء الذي حل علينا بلطف منه ورحمة»
رد الجار قائلا: «لا تقلق يا أبا يوسف أنا أعرف شخصا يعمل في شركة ابنك شخص ذو وظيفة ومكانة وبإمكانه محادثة المدير، ليعيد ابنك لعمله، سأتصل به حالا.
عندها تفتحت مسامات الأمل في وجه أبي يوسف عندما أخبره جاره أنهُ حدد له لقاء مع «السيد كريم» في إحدى المقاهي عصر اليوم ليخبره بتفاصيل ما حدث ووعده بالمساعدة.
وفي العصر وبينما كان أبو يوسف ينتظر خارج المقهى وصول «سيد كريم»، تتوقف سيارة من أفخم الماركات وأحدثها وأغلاها، وينزل منها رجل في هندام عال وأنيق جدا، ارتبك أبو يوسف فهذا الشخص هو من ينتظر مقابلته.
بادر سيد كريم بالحديث بصوت يحمل من الطيبة والمحبة ما جعل أبو يوسف يرتاح كثيرا له وبعدما سرد له كل ما حدث، طمأنه سيد كريم بأنه سيلتقي المدير بعد قليل وسوف يفاتحه بالموضوع وليستبشر الخير بإذن الله.
وفي اليوم التالي خرج أبو يوسف مسرعاً لبيت جاره وهو يحمل له البشرى، فلقد وصلهم اتصال من الشركة ليعاود ابنه العمل، ولم تتسع الفرحة قلب أبا يوسف ووعد جاره بأنه سيقدم له وإلى سيد كريم هدية مقابل موقفهم معه. وسأل أبو يوسف عن وظيفة سيد كريم الذي لم يرفض المدير له طلبا.
فقال الجار: إن ابنك هو ابني وسعادتي في استقراره ولا داعي إلى هدية أو ما شابه، وحتى سيد كريم يرفض الهدايا ومساعدته لابنك المظلوم هي لوجه الله دون مقابل، وصُدم أبو يوسف عندما علم أن سيد كرم هو سائق المدير، وهو الذي ظن أنه ابنه أو أحد موظفيه الكبار.
يعتقد الناس أن سلطة الألقاب والمال هي أكبر قوة يمتلكها الإنسان، وهذا غير صحيح، إن أفضل ما تملكه ويجعلك قويا هي علاقاتك الاجتماعية مع الناس، فما فشل بحله رئيس القسم وهو أعلى سلطة نجح به السائق الذي يعزه المدير كثيرا ويعتمد عليه، ويستشيره كونه إنسانا طيبا يحمل الخير للجميع دون مقابل أو مصالح ويأمن أسرار مديره.
ماذا نربح بعلاقاتنا الاجتماعية؟ وما دورنا الأصح بين الناس؟ ولماذا يطلق على بعضنا لقب «اجتماعي»؟ وهل نستطيع الحياة دون هذه العلاقات؟ كل هذا كان ضمن محاور محاضرة الشيخ حسن الصفار بعنوان «العلاقات الإنسانية وازدهار الحياة».
لقد أراد الله لنا حياة متشكلة بلباس الطابع الجماعي، لذلك لا يمكن أن تعيش وحدك، فالإنسان لا يمكنه القيام بكل أمور حياته بنفسه، غير أن مصالحه مرتبطة ومتداخلة مع من حوله. فقيل إن كلمة «إنسان» مشتقة من الأنس فالناس تأنس ببعضها.
يبين الشيخ الصفار احتياج الإنسان وانجذابه بطبيعته للآخرين، فهو يحتاجهم نفسيًا وماديا، لكن هذه العلاقات ليست سهلة، يختلط الإنسان بالحيوانات والنباتات والطبيعة وحالما يدرك قوانينها يصبح التعامل معها سهلا كونها تملك نظام محددا، لكن التعامل مع البشر مختلف، فالله خلق الإنسان مميزا بمشاعر وعقل وأحاسيس وآراء متغيرة، وأمزجة غير ثابتة تصعب مهمة التعامل معه بشكل ثابت.
فمهما ملكت من المال والحاجات لن تكون سعيدا إذا كنت تعيش وحدك، وكذلك في نطاق المجتمع فلو امتلأ المجتمع بالعباقرة والعلماء والمهندسين والمبدعين لن يتطور طالما كانت علاقاتهم ضعيفة فقوة المجتمع بترابط أفراده. ويذكر لنا الشيخ أن النبي محمد ﷺ كمثال فرغم كونه يحمل كل الصفات النبيلة والخيرة فإنه لم يكتف بها بل اهتم بالعلاقات الاجتماعية مع الناس وهذا سر نجاح دعوته.
يطرح الشيخ الصفار برنامجا يحوي عدة نقاط تؤدي لنجاح الإنسان بإدارة علاقاته مع الناس، ولو طبق الجميع ذلك سنعيش جميعا براحة وسعادة، وأوجز هذه النقاط لكم فيما يلي:
- علينا تنمية مشاعرنا الإيجابية إتجاه الآخرين وكبت المشاعر السلبية، فهذه المشاعر ستعكس سلوكك إتجاه الناس بحسب نوعها.
- يجب التركيز على الجانب الحسن في شخصيات الناس من حولنا، فهناك من يبحث عن أبسط العيوب والأخطاء ويقوم بتكبيرها للأسف.
- ابحث عن الجوانب المشتركة بينك وبين الناس، هذا سيقرب العلاقات ويجعلها أكثر قوة، فالتركيز على الاختلافات يزيد البعد.
- لا تجعل علاقاتك مبنية على أسس طائفية أو لون عرقي أو معرفة أسرية، كن ذا نظرة إنسانية وتعامل أخلاقي مع الجميع فكلنا خلقنا من تراب واحد.
- ابتعد عن سوء الظن فهو الباب الذي يؤدي إلى التهلكة والقطيعة والعداوة، لا تجعل لأفكار الشيطان بابا للتغلب على ما بداخلك.
- أحبب الخير لمن حولك ولا تراقب نعم الله عليهم بعين الحسد، فالحسد يرمي صاحبه بمقبرة الحقد والأنانية.
- لا تهن الآخرين لا بكلمة ولا بتصرف ولا بإشارة فالإهانة تجرح الناس جرحا يجعلهم يبتعدون عنك ويرفضون قربك.
- تعلم مبدأ الإحسان «أي العطاء دون أخذ» فهذا من الصفات العليا للمؤمن والتي لا يصل لها إلا صاحب القلب الأبيض السخي.
- احترم الناس وتقبلهم كما هم فالله خلقنا باختلاف. وتغافل عن ما يبدر منهم ولا تتصيد الأخطاء عليهم.
على سطح الأرض الكثير من الأحجار التي لا يفكر أحد بها، ولكن هناك أحجار «كالألماس» نقية لا شوائب فيها نادرة الوجود وغالية الثمن وكلما زاد صفاؤها الداخلي زادت قيمتها، فيسعى الناس لامتلاكها، وأصناف البشر كذلك، فالأرض ممتلئة بهم لكن كلما امتلك الإنسان قلبا أبيض طيبا محبا للناس وصار يتعايش معهم دون حسد وحقد وكراهية، أصبح إنسانا مميزا ونادرا، ويتسابق الناس للقرب منه، وتعلو مكانته الاجتماعية كلما زاد نقاء قلبه.
فكر وقرر... فنحن جميعا بيدنا أن نختار لأنفسنا الألقاب هل نكون بقلب حجر أسود أم بقلب كالألماس؟؟