لمن التكريم؟؟؟
بعد أن اكتمل عدد المسافرين، انطلقت الحافلة التي تقلنا نحو بيت الرحمة والطهارة، ضمن قافلة من قوافل الحجيج، بدأتُ بتصفح وجوه من حولي ضمن محاولة للتعرف على رفقاء السفر. كان يجلس أمامي رجلان أخوة من خارج قريتي،
قاسم رجل تخطى الخمسين من عمره، قليل الكلام، كثير التعبد، فالقرآن رفيق يديه دائمًا، إذا تحدث اختصر حديثه، جامد الملامح، لديه وجه يميل للوحدة والصمت والعزلة.
وسعيد في ريعان الثلاثين من عمره، ذو وجه ضاحك، روحه منطلقة اجتماعيًا، كان يقضي وقتًا بالقراءة والدعاء، يحادث الجميع في وقت الاستراحات، يشاركنا من مأكولاته، ذو لسان خلوق ومؤدب.
طوال أيام الحج كان قاسم يتواجد في غرفته يصلي ويتعبد، كان يتجنب الاختلاط بالناس؛ خوفًا من أن يسمع أو يشارك بمعصية؛ لذا لم نكن نراه كثيرًا إلا في أعمال الحج التي كان غالبًا ما يؤديها بنفسه بروح إيمانية عالية؛ كان يتمنى الأغلب أن يكونوا بمثل روحانيته. وارتقت نظرتهم له عندما قام بقراءة زيارة الإمام الحسين وبعض الأدعية بصوته الجميل في يوم عرفه ولم نسمع له صوتًا بعد ذلك.
أما سعيد فكان كالنحلة، أجده في أغلب الأماكن، يده متعاونة مع الجميع، يساعد في حمل الشنط، يهتم بتنظيف المكان بعد الوجبات، يسأل الجميع إذا ما رغبوا بخدمة، حتى ظن بعضهم أنهُ من ضمن الكوادر العاملة بالقافلة من طيبته، لم نشاهد عبوسًا في وجهه، وكان دوره كبيرًا في خدمة الحجاج وقت الدخول في الطواف الأكبر حيث الطوفان البشري؛ الذي خرج منه مسرورًا رغم العناء والتعب.
ذهبت مع سعيد للتسوق؛ لشراء هدايا للأهل والأصدقاء، لاحظت أنه يشتري هدايا لعائلة أخيه نيابة عنه، وعلمت أن قاسم بلا عمل يعيش على ما يكسبه من عمل تثويبات قرآنية، وصلوات للآخرين، وأن سعيدًا هو من يساعده في إيجار منزله، ودراسة أولاده.
وفي اليوم الأخير وبينما سعيد يحمل شنط أخيه للحافلة، كان قاسم يُكرم ضمن مجموعة من الحجاج الذين ساعدوا في إنجاح عملية الحج؛ كونه شارك بقراءة بعض الأدعية والزيارات.
برأيكم من الذي يستحق التكريم الحقيقي؟ لماذا يرى المجتمع الفخر بعين التدين فقط؟ ومن كان الأصوب بعمله سعيد أم قاسم؟؟ سوف أعطيكم ملخص محاضرة الشيخ الصفار «دين يشغل عن الحياة» وواثقًا أنكم ستكتشفون منها الإجابات لتلك الأسئلة.
تقسم الأعمال التي تصدر من الإنسان إلى:
- دينية: وهي كل ما يرتبط بالعبادات كالصوم والحج والصلاة.
- دنيوية: وهي ما ترتبط بالأعمال التي تسير حياتنا من أعمال توفر لنا مسكنًا، وطعامًا، وراحةً.
وهناك فوارق بين نظرة الناس لهذين الصنفين من الأعمال.
- من حيث استحقاق الثواب من الله: يرى الناس أن الأعمال الدينية لها الأجر الأعظم، فأجر بناء مسجد أفضل من بناء مصنع.
- من حيث الاهتمام والاتقان للعمل: يهتم الناس باتقان الأعمال الدينية، بخلاف الدنيوية، فنجد الشخص يهتم بالصلاة في وقتها وبنفس الوقت يتأخر عن وقت عمله.
- الاحترام والتقدير بالوسط الاجتماعي القائم بالعمل: الناس تتجه لاحترام من كان يميل للأعمال الدينية بالمرتبة الأولى؛ لذلك يُفخر بطالب الدين أكثر من طالب الهندسة.
ثم فسر الشيخ الصفار العديد من النصوص الدينية، التي بينت أن الإسلام لا يؤيد، ولا يساعد على التفرقة بين الأعمال الدينية والدنيوية، فكما أمرنا بالعبادات والشعائر أمرنا بتعمير الأرض والسعي فيها. يقول أمير المؤمنين «اعمل لدنياك كأنك تعيش ابدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا» فيدعونا الدين للموازنة بين الفكر والعقيدة، مع ما يتناسب مع هذه الدنيا، فلا السعي لشهوات الدنيا متجاوزًا الحدود الدينية صحيح، ولا الاعتكاف والانزواء عن الدنيا بالعبادة وتعطيل حياه الإنسان صحيح، الطريقان خطأ والأصح يكمن بالتوازن.
إن الإنسان إذا أحسن المنفعة بعمله له أو للناس على الأعمال الدنيوية؛ فإنه يستحق الثواب، فمن يتزوج؛ يؤجر بذلك، ومن يعمل؛ ليكسب قوته يستحق الثواب، والاحترام، والتقدير، فالدين يمجد كل عمل فيه نفع للمسلمين كحمايه البيئة والدفاع عن حقوق الناس.
واستند الشيخ على قوله تعالى ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ﴾؛ ليبين أنه لا بد لنا من الاهتمام بنصيبنا من الدنيا بكل جوانب حياتنا؛ ولا نكتفي بالتعبد والاستغفار فقط. فالحياة لا يمكن أن تعمر على روحانيات الإنسان، بل هي بحاجة لسعيه وكده؛ هذا ما يجعل الدين ينهض ويتقدم. فالحياة مفتوحة للإنسان بما لا يتجاوز دينه.
الإسلام لا يسعى للرهبانية، كما كان يفعل المسيحيون، وإنما شرع الله العبادات وحددها بوقت؛ كي يتفرغ الإنسان لإعمار الأرض أيضا، فالصلاة لها وقتها وعددها، والصوم والحج له شهره وأيامه، هذا هو الحد الأدنى للتدين، ومن أراد الزيادة، فهو شي جيد؛ ولكن لا يتعدى مرحلة أن ينسى دنياه.
وذكر الشيخ الصفار الإمام الحسين كقدوة وهو في موسم الحج، أعظم وقت لشعائر الدين، فيخرج إلى العراق دون حج، حيث رأى أن واجبه نحو الدفاع عن الناس، والدين، وتحمل المسؤولية الأولوية على العمل الدنيوي.
لقد خُلقنا من رب رحيم، لو أراد لنا التعبد فقط؛ لما خلق بداخلنا تلك الشهوات والرغبات، لقد سخر الحياة بأكملها لنا؛ لنحيا بها فقط بشرط واحد وهو عدم تجاوز الدين. نحن ندعو في صلاتنا يوميا «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار» فلنعمل بما ندعو به؛ لنربح الدارين.
اعتقد أنكم أدركتم من هو الذي يستحق التكريم الحقيقي، إنه «سعيد»؛ لأنه سعيد بنعيم الدنيا ونعيم الآخرة.