وللمحبَّةِ أسبابٌ أُخرى..
خُلِقَ هذا العالم بكُل ما فيه من اختلافٍ وجمال لنستمتع بتفاصيله، وتغترف أبصارنا وبصائرنا من جماله، ونغوص في رحلات البحث المعرفية عن كنوز أسراره، وكان حظنا بالانتماء للمنطقة العربية كبيرًا لأنها من أكثر بلدان العالم ثراءً بأسرار المعرفة وكنوز التاريخ، لكن حالةً سائدةً من الجهل الجمعي تتجاهل تلك النعمة غير عابئةٍ بتبددها، وحالةً أُخرى غريبةً مُستجدة تجنحُ لمُكافحة كل شعورٍ طيبٍ تجاه بلدٍ آخر غير الذي شاءت الأقدار أن يولد فيه الإنسان ويُختم باسمِه بذريعة أن كُل إعجابٍ أو محبةٍ لا بد وأن يكون وراءهما مشاعر أو نوايا سياسية كامنة! وهذه - لعَمري - من أقبح صور التشوه والتلوث المشاعِري الذي بدأنا نغرق فيه ونختنق!
ثراء الموروث التاريخي والفكري، اللهجة اللذيذة، الأجواء اللطيفة، الطبيعة الخلابة، الصناعات المحلية العريقة، الأطعمة اللذيذة، جمال النساء ورقتهن، عنفوان الرجال وشجاعتهم، الفن الأصيل، الأدب القادر على إيقاظ الدهشة في النفس، الأحجار الكريمة، الممثلون الوسيمون، المُمثلات الجذابات، الدراما التلفزيونية والإبداع السينمائي، أرواح الناس هناك، أشكالهم، كل هذه الأسباب، أو بعضها، أو غيرها، قد تدفع شخصًا للوقوع في غرام بلد دون أن يكون مُهتمًا بتوجهاته السياسية، فللمحبة حساباتٌ مشاعرية أُخرى تعتمد على مصالح قلب الإنسان الذي يخفق بهجةً بسبب مكان، لا على المصالح المُعقدة بين من لا يعرفهم هنا وهناك.
حرمان الناس من ممارسة حقهم في المحبة ولو بالكلمات ليس أمرًا مُفزعًا وبشعًا وحسب؛ بل فيه عبثٌ بالبرمجة الفطرية للإنسان الذي يُفترض أن الحُب للأشخاص والأشياء والأماكن والمعاني الوقود اليومي لروحه ووجدانه، وحين لا يتنفس كفايته من هذا الحُب يتداعى ويتبلد ويمرض ثم يموت!
يبدو أن نظامًا عالميًا جديدًا يُقدس ”الروبوتيَّة“ ويتلذذ بتحويل البشر إلى روبوتات تشعر بضغطة زر، وتكف عن الشعور بضغطة زر، تُحب اليوم بالأمر وتكره غدًا بالنهي، ثم تكره بعد غدٍ بالأمر وبعده تعكس شعورها بالنهي! ومع تكريس ظاهرة ”الببغائية“ بين الجماهير التي تُكرر ما تسمع دون تفكير، تتحول فردية المشاعر إلى رماد، ويُصبح الشخص ذو المشاعر الأصيلة الخاصة به مثارًا للسخرية أو الريبة!
لا يوجد بلد على وجه الأرض ليس فيه ما يستحق المحبة، كان الخالقُ - ومازال - عادلاً جدًا في توزيع ثرواته المادية والمعنوية في كل مكان، وإن كان بصرك وبصيرتك عاجزان عن رؤية ما جعل قلب الآخر يخفق حُبًا لأجل مكان فهذا لا يعني أن ليس فيه ما يستحق الحُب، بل أنك أنتَ شحيح المعرفة، بليد المشاعر، مُتجلد الأحاسيس، تحتاج بذل مجهود هائل لاسترداد إنسانيتك وتكف عن محاولات تجريد الآخرين من انسانيتهم المُرهفة.