آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 12:18 م

الإمام الحسين (ع) الإنسان... «شهيد الإنسانية» ‎‎

أشواق آل عبد الباقي

بدايةً أتحدث بصورة مختصرة عن الإنسان، فما هو الإنسان أو من هو الإنسان؟ الإنسان كائن حي أكرمه الله بالعقل والوعي والإدراك وأعطاه القدرة على التفكير، وهو يتكون من مجموعة من أحاسيس ومشاعر وعاطفة ووجدان، يتأثر بكل ما يجري حوله، بما يراه، وبما يسمعه، وبما يحدث له، وهذا شيء جد طبيعي فيه إنما الأمر غير طبيعي هو حين يصبح هذا الكائن عديم الشعور والإحساس وميت الضمير، وحين يُوظّف عقله في الشر، وفي إلحاق الضرر بالآخرين، وهو إن لم يتأثر شعوريا وعاطفيا تجاه إخوانه في الله من الضعفاء والمضطهدين والمستضعفين والمظلومين، فهو ليس بإنسان بل مجرد كائن حي، همه الوحيد هو الأكل والشرب والتلذذ بمتع الدنيا والرغبة في امتلاك الماديات لتحقيق الرغبات وإرضاء الشهوات في نفسه.

إن أعظم مثال يُعبّر عن مشاعر الإنسان، تلك المأساة والمصيبة التي حدثت في يوم العاشر من محرم الحرام، في ذلك اليوم العصيب على الحسين ومن معه من أهل بيته وأصحابه، واقعة تُثير الأحاسيس شجنا وحزنا ولوعةً على ما آل إليه مصير أطهر وأطيب القلوب وأنقى النفوس وأشدها إيمانا وتعلّقا بالله تعالى، الحسين قد عاش في ذلك اليوم الرهيب وضعا إنسانيا شديد الوطأة على النفس البشرية، لا يُطيقه ولا يتحمّله في عصرنا الراهن أي إنسان قد شحّ صبره وقلّ إيمانه، ولأنه كان شديد الصبر والتحمل فلم يعني هذا بأنه لم يكن يشعر ولم يكن يُدرك ما كان يجري حوله، بل لقد شعر أمامنا بمزيج هائل من المشاعر والأحاسيس المؤلمة.. بالغدر، وبالظلم، وبالخيانة والخداع، وبالغربة وبالوحدة وبالتشتت، لقد اختبر المشاعر الإنسانية التي يشعر بها كل مظلوم ومغدور ومقهور ومُعذّب، وكل غريب ووحيد على وجه هذه الأرض، لا ناصر له ولا مؤازر ولا من يُخفف عنه ويُعزّيه أو يكفكف دموعه ويُهدّئ من روعه ومن صدمته بما جرى عليه، أهوال تكبدها هو وحده، كما اُضْطُرَّ لمواجهة ألدّ أعداءه وأعداء والده الإمام علي من قبله، ومواجهة العِدى ليست بمسألة سهله إطلاقا، فهي تتطلب شجاعة قصوى وعُظمى وقلب قوي صبور، وعزيمة حديدية واستعدادا نفسيا كبيرا، اضطر لكي يعظهم بوجوب تقوى الله وبان هذه الدنيا هي دار الفناء وثنيهم عن قرارهم بقتله والتخلص منه ومن ثم اضطر لقتالهم دفاعا عن دينه وعقيدته وعمن معه، كل ذلك لا بد وان نعيه وندركه بعقولنا قبل قلوبنا، وبكاء المؤمن والمؤمنة على الحسين لهو بكاء على غربته ووحدته واستشهاده وحيدا فريدا ذلك لأن من يحمل قلبا رقيقا وعاطفة نبيلة وخلقا حسنا وهو مؤمن صالح هو من بكى وسيبكي على الحسين الإنسان، لأن ما أصابه «على روحه الطاهرة السلام»، يثير في النفس شجناً وألما وَبُكَاء.

أخي المؤمن القارئ لهذه السطور، لا تصدق أبدا من يتظاهر أمامك وأمام الآخرين بالبكاء على الحسين رياء ونفاقا وهنالك شخص يتعذّب ويتألّم من أذاه ومن غطرسته، مُستغلا قوته ونفوذه وسلطته عليه، يُخطط ويُدبّر له، ويتآمر عليه ويتربّص به سوءا وشرا يحدوه «يدفعه ويحفزه إليه» قلبه الحاقد وروحه الشريرة وهو على علم بضعف هذا الإنسان وقلة حيلته ووحدته وغربته وغياب السند الذي يتكئ عليه، فما دموعه إلا أكاذيب وادعاء لا معنى لها ولا هدف له من وراءها سوى أن يراه الناس فيحترمونه ويمتدحونه بما ليس فيه، أو يظنون به خيرا وبأنه واحد منهم يبكي كما يبكون وهو أحقد الحاقدين! وأشدهم ظُلما! فالظالم والمجرم والحاقد والمنافق لا يبكون على الحسين كبكاء المؤمنين عليه ، هو ذاك الشخص المُجرم، الذي يستفزّ الإنسان الضعيف ويقهره ويحتقره ويلعب بأعصابه ويكيد له ويتكلم عنه بسوء تماما كما فعل كلاب بني أمية بالحسين وبمن معه يوم عاشوراء، فقد استغلّوا وضعه وحالته وتلاعبوا بمشاعره واستهانوا بها وآلامه وأحزانه وبما أحس به من قهر وغربة ووحدة وألم وعطش، أن البعض من هؤلاء يظلم الضعفاء من الناس ثم يحضر مجالس الحسين وبكل بساطة يتظاهر أمام الحشود بنحيبه وبأنه أتقى الأتقياء وانقاهم وبأنه يبكي على مصيبة الحسين بتمثيل البكاء على الحسين؟ فأن تظلم نفسك أيها المنافق فهذا شأنك وحدك، ولكن ان تظلم الضعفاء من خلق الله وتستضعفهم وتنهش في اعراضهم بالقول، ثم تكون حاضرا في مجلس سيد الشهداء والابرار، المظلوم والغريب، وتتظاهر بأنك تبكي عليه «سلام الله تعالى عليه» فهذه قمة الحقارة والخسة والنذالة واكبر مسخرة، وان كنت تقصد السخرية من الناس بالتظاهر والتمثيل امامهم فاعلم بأنك انت من يُثير في نفوسهم الشفقة والسخرية، إنّ مجالس الحسين ما وُجدت لتُخرّب النفوس والعقول ولم يكن هذا هو الهدف من احياءها يوما بل لكي تهذب النفوس وتُربّي فينا الخُلُق القويم والاحساس بالآخرين، ان من يُحب الحسين ويتمزق قلبه حزنا عليه لا يمكن باي حال من الأحوال ان يكون ظالما او فاسدا او ماكرا او مجرما او متكبرا او خبيثا، فالحسين بمصيبته يُمثل المظلومين والضعفاء والمقهورين والمضطهدين والمستضعفين، ومن يعيشون ظروفا اجتماعية ونفسية صعبة، فالباكي عليه حتما سيبكي على هؤلاء والمُتعاطف معه حتما سيتعاطف مع هؤلاء.

البعض يكون مسرورا حين يرى أخيه المؤمن ضعيفا وحيدا مُنكسر الحال، وقليل الأهل والأحباب فيسخر منه، أن هذه الفئة التي أعنيها من الرجال والنساء وان حضرت مجالس العزاء والبكاء الحسين وتواجدت فيها وواظبت على الحضور وتظاهرت بالبكاء أمام حشود غفيرة من البشر، فبكاؤها قطعا، ليس حبا بالإمام ولا حُزنا عليه، ولا على من مشوا معه وصاحبوه إلى أرض المعركة في كربلاء الطاهرة، ولا تأثرا بما أصابه في ذلك الوقت والمكان، بل على العكس من ذلك فما حدث في يوم عاشوراء لم يُثر في نفوسهم أكثر من مجرّد الضحك والسخرية والشماتة على الحسين ، لأنهم ينظرون في حياتهم المعيشية والعامة بوجه عام، بعين السخرية لكل إنسان ضعيف وحيد، لا بل ويظلمونه ويتجبرون عليه وينتهكون حرمته ويؤذونه بشتى أنواع الأذى.

لقد عاش الإمام الحسين معاناة الملايين من البشر في معظم أنحاء العالم في يوم واحد وهو اليوم العاشر من المحرم، معاناة وآلام الإحساس بالظلم وبالغربة، وآلام الإحساس بالاضطهاد والغدر والخيانة والوحدة والحزن والمصيبة، وقلة الأنصار وشماتة الأعداء، والحقيقة هي أن أشد الناس إحساسا بمصيبة الحسين ومعاناته الشديدة هو من تعذّب عذابا يشبه عذاب الحسين وتجرّع وجعاً كوجع الحسين... فلا يوم كيومه .

إنّ إمامنا الحسين كان إنساناً قبل أن يكون إماما، فقد أظهر صبراً شديداً على الأذى والمصائب والمحن وعزيمة وإرادة من حديد، كما وكان رجلا قبل أن يكون إنسانا، إذ أظهر شجاعة وبسالة وغيرة الرجل الحقيقي حين ثار من أجل الدفاع عن دين جده المصطفى محمد ﷺ وعن حرمة أهل بيته، وكيف قدّم الأهمّ على المهم، وقبل أن يُذبح على يد العصابة المجرمة الذين تجردوا من الإنسانية واستغلوا وحدة الحسين وغربته وقلة الأنصار من حوله فتكاثروا عليه وهبوا للنيل منه وسحقه فتحولوا بجريمتهم النكراء والشنعاء بحق نفس الإمام الحسين الزكية، إلى وحوش بشرية حقيرة وسفلة ومجرمين، هم ومن على شاكلتهم ممن يعيشون عبئاً على المظلومين المضطهدين والمُستضعفين. إنّ أهل بيت محمد ﷺ من أطهر خلق الله فهم المعصومون الأطهار، فهم لا يظلمون ولا يسخرون ولا ينافقون ولا يصيبهم الكبر أو الغرور ولا يعرفون المكر ولا الخبث ولا الرياء ولا العناد.

إنّ واحداً من أهم الدروس وأعظمها والّتي ينبغي أن نتعلمها ونتمسك بمضمونها ونستفيد منها ونجعلها زادا لنا في الدنيا من مأساة يوم العاشر من المحرم، هو ما قاله الإمام لولده علي بن الحسين «عليهما السلام» «أي بُنيّ... إياك وظُلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله» هذه الجملة اختصرت عظم المصيبة وهي أم الدروس ورأس الحكمة، هي الدالة على التقوى وعلى الخشية من الله على الإيمان وعلى الصلاح وعلى عمق إيمان الإمام وخوفه الكبير من خالقه، فهي تمنع النفس الأمارة بالسوء عموما أن تُرضي غرورها وتفرغ شحناتها «عداوتها» في إنسان ضعيف، وهذا أعظم الظلم واسوأ الخُلُق وأعنف وأحقر ما يتصف به الإنسان، فهو يُجرّده من إنسانيته، والإنسان المؤمن إيمانا حقيقيا لا يتوانى عن نصرة أخيه المؤمن كما لا يؤذيه أو يضره أو يستغل ضعفه لأي سبب كان.

لم نكن مصيبة الحسين إلا درسا نتعلم منه كيف نشعر بالحسين، وكيف نقدره، وكيف ننظر ونتعامل مع من يمرّ بمصيبة ويتعرّض لمحنة، ويُبتلى بخسارة أهله وأحبابه والعضد في حياته، قصة الحسين تعلمنا كيف نتعاطف مع الآخرين كيف نشعر بهم كيف ندرك كم هي الدنيا تافهة وحقيرة وغادرة ومتقلبة! وكم من مظلوم يعيش على أرضها لا يستحق الظلم ولا القسوة ولا العنف ولا الاضطهاد وبأن أهل الأرض لا يبقون، وبأن أهل الحق والخير والعدل دائما هم من يدفعون الثمن بدمائهم وأرواحهم ومبادئهم ويرحلون بسلام وباطمئنان وثقة بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، فسلام الله عليك يا أبا عبد الله، عليك مني سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار.