فلتر قلبك
استطاع منذ اللقاء الأول أن يجذب انتباههم له بأناقته وابتسامته وجاذبية حديثة، هو يُدرس الفقه لطلاب المرحلة الثانوية في التعليم الديني في قريتهم، نجح رغم عدم تجاوز عمره 30 سنة أن يبني علاقة استثنائية مع طلابه، قائمة على المحبة والاحترام، حتى أصبح من النادر أن يتغيب طالب عن حصته.
يبدأ درسه بنقاش خارجي لا يتعلق بمنهجه؛ لأنه مؤمن أن التعليم الديني هو ثقافة عامة تخلق إنسانًا واعيًا بكل جوانب حياته، يختار المواضيع المنتشرة والشيقة في أوساط الشباب ويترك لهم مساحة التعبير عن الرأي.
في اليوم الأول وبعد التعارف، وزع على طلابه ورقة تحوي أسئلة عن الصلاة، وأركان الدين وأصوله، وعن سيرة الأنبياء وأهل بيت النبوة، وعن المذاهب الأخرى، وطلب منهم الإجابة، وعدم كتابة أسمائهم على الورقة؛ ليضمن شفافية إجاباتهم. وبعد انتهائهم خصص لكل طالب وقتًا؛ ليتحدث بنفسه عن حبه لدينه، وعاطفته اتجاه النبي والائمة من بعده.
كم كانت دهشته وهو يستمع لقوة أحاديثهم وعاطفتهم الشديدة؛ حتى أن أحد الطلبة ردد أنه يتمنى أن يموت ويدفن بأرض كربلاء بالقرب من الإمام الحسين، وكم تضاعفت دهشته عندما عاد للمنزل وقرأ إجاباتهم، مؤلم أن منهم من كان يخطئ في صلاته، والأغلب لا يعرف من سيرة النبي وأهل البيت شيئا غير تاريخ وفاته، والبعض كان متعصبًا للمذاهب والديانات الأخرى.
في الدرس الثاني وزع المدرس على طلبته كؤوسًا من الماء تحوي بداخلها بعضًا من الأحجار والأتربة، وطلب منهم شربه، امتنع الجميع عن ذلك، سألهم المدرس عن السبب، وكانت الإجابة كون الماء غير صالح للشرب. ثم أخرج مجموعة من ورق الفلتر، وطلب منهم تصفية هذا الماء حتى يرجع لنظافته، استمتع الطلاب بذلك حتى أصبحت كؤوسهم نظيفة، ثم أعاد المدرس طلبه فشرب الجميع الماء دون تردد.
هنا قال المدرس: اسمعوا يا أخوتي؛ الماء هو سر حياتنا؛ ولكننا لا نستفيد منه إذا اتسخ بل قد يكون سبب أذيتنا، نحتاج لفلتر؛ ليجعله صالحًا للشرب، والدين كذلك، أنتم تملكون حبًا قويًا لدينكم ولرموزه وكتبه؛ لكن لن تستفيدوا من هذا الحب إذا جهلتم العلم في هذه الأمور، تحتاجون لفلتر يزيح عنكم الجهل الذي في قلوبكم، ويرجع لكم إنسانيتكم، وعدم تعصبكم للأمور، فلتر يجعل قلوبكم نقية، هذا الفلتر ستجدونه في آيات القرآن، في دروس العلماء، في كتب المراجع. فكلما أحسستم أن عاطفتكم الدينية متسخة استخدموا الفلتر لتنقيتها، وإعادتها للصواب.
محاضرات الشيخ الصفار، أخترت أن أكون أحد مستمعيها؛ فهي فلتر في أطروحاته التي تزيل القشور الزائفة التي وضعتها الأفكار غير المتدينة، وهذه الساعة من الاستماع تشكل علمًا قد يعد فارقًا كبيرًا في تطورنا الفكري والديني.
«ترشيد العاطفة الدينية» كان عنوان محاضرته المرتبطة بما سبقتها، بدأها بالإجابة على سؤال عن ما هي مصادر العاطفة الدينية لدى الإنسان المتدين؟
أولها: يكمن في تكوين الإنسان الفطري لحب الدين؛ فهو يتعلق بما ينشأ عليه ويصبح جزءا من هويته ويعتقد أنه دين الحق من بين كل الديانات، وتنجذب عواطفه نحوه ويؤمن أن الدين الذي تربى عليه هو الصواب والحق.
ثانيا: البيئة العائلية والمجتمعية التي تبني أساسيات العاطفة لدى الطفل اتجاه الدين؛ نحن نعلم أولادنا السباحة؛ لنحميهم من الغرق؛ لكن هناك غرق فكري يحيط بالمجتمع، علينا أن نعلمهم النجاة منه بتعزيز الهوية الدينية لديهم؛ لكن للأسف انشغل الأهل بمشاغل الحياة؛ مما جعل وسائل التواصل الاجتماعي هي الموجهة للدين في نفوسهم وهذا خطر يجب الالتفات له.
ثالثا: التحدي الخارجي للهوية الدينية، وطرح الشيخ مثالا جميلا وقريب الحدث، وهي الرسوم المسيئة للرسول ﷺ، إن تعرض الدين للإساءة من الأعداء يحرك عواطف الإنسان ويشده للتحدي؛ للدفاع عنه، فكُتبت كتب وقصائد وخصصت برامج للدفاع عن النبي مما رسخ العاطفة الدينية أكثر.
رابعا: السيرة المثالية لقادة الدين وأخلاقهم وصفاتهم المشرقة، هي سبب لترسيخ عاطفة الناس للدين، ليس لمن عاصرهم فقط، بل للأجيال المقبلة التي ستفخر كونهم جزءا من تاريخها، وأكبر قدوه للقيادة هو رسول الله ﷺ الذي بتواضعه وقربه للناس وأخلاقه كسب احترام حتى أعدائه.
خامسا: التوجيهات والتعاليم الدينية، إن الدين ليس نظرية علمية يجب التصديق بها فقط، الدين ليس كلمات تكتب، الدين يخاطب المشاعر؛ لذلك أساس الإيمان يكمن بالحب، وأشار الشيخ أننا كمدرسة أهل البيت نمتاز بعاطفة قوية تجاههم، عبر إحياء مناسباتهم، وزيارة مراقدهم، وتناقل أدعيتهم وفكرهم وهذا فخر عظيم نعتز به.
انتقل الشيخ الصفار بعد ذلك للقسم الثاني من محاضرته؛ التي أعتبرها هي فلتر الحوار حيث ركز على التحديات التي تواجه عاطفتنا الدينية، وكيف نتغلب عليها بطرق سليمة. اذكر لكم بعضًا منها
⁃ أحبب أهلك ضمن حدود لا تصل فيها للأنانية، أحبب المال؛ لكن لا تصل لحد الفساد والسرقة، كذلك عاطفتك نحو دينك لا تبالغ بها حد أن تنفلت للانحراف.
⁃ قليل من العلم أفضل من كثير من العبادة، حبك للنبي مثلا إذا كان خاليًا من المضمون والوعي به، وبمعرفته وبتوجهه؛ يجعلك هشًا سهل الكسر، وزيارة الحسين إذا لم تكن عارفًا بمضمونها وأهدافها ومعانيها، تفقدك أجرها العظيم.
⁃ الدين ليس اتجاهًا نظريًا فقط، بل يترجم بشكل عملي سلوكي في واقع وقضايا الحياة، فحتى محبة الله يجب أن تكون هذه العاطفة التي تجعلنا نلتزم بعباداته وأوامره.
⁃ «فليس النار تمس زوار الحسين» عبارات شعرية عاطفية يعيشها البعض ويعتقد بها بشكل خالٍ من المعرفة، فهناك من يسير مشيًا على الأقدام لأيام؛ ليزور الإمام؛ لكنه طيلة هذه الأيام لا يقيم صلاته، ويؤمن أن غبار المشي سينجيه من ذلك، إن العاطفة التي لا تتخلق بخلق الحسين لا قيمة لها.
⁃ يلجأ بعض الخطباء للخرافات؛ لترسيخ عاطفة الناس الدينية، أو من أجل إبكاء الناس غير مدركين خطورة هذا الأمر، الذي يتصيده المتربصون؛ ليشوهون به ديننا، إن علينا ترشيد واستقامة وتعديل كل ما يمس عاطفتنا الدينية، ولا سيما في موسم عاشوراء الذي تكثر فيه هذه التجاوزات.
إن الشيخ الصفار رغم كونه أحد خطباء المنبر الحسيني؛ إلا أنه لا يخفي فساد المجتمع في أطروحاته، فلا يزال في الدين مواقع ضعف يجب التركيز على تقويتها، بدءا من الخطباء، والمصادر الصحيحة للروايات والمجتمع؛ حتى لا تضلل التيارات المنحرفة عقول الأجيال بفكرها المسموم. فكلما رشدنا عاطفتنا نحن؛ أكسبناها مناعة ضد الانحراف.
وختم الشيخ مجلسه بحقيقة أن الدين الإسلامي يدعو للتعقل والتفكر وليس للجنون، فلا تجعلوا العاطفة غطاء لتفسير سلوكياتكم الخاطئة بالمجتمع، فليكن هناك ترشيدًا لعاطفتنا الدينية؛ ليكون لدينا بذلك قلب وفكر نظيفان طاهران.
إن النجاح الحقيقي يكمن في مدى محاولاتك؛ لتقوية عاطفتك الدينية؛ لذا على كل واحد منا أن يملك فلترًا في حياته يستخدمه كلما تشوش عقله، وكلما زاد ضغط الجهل عليه، هذا ما سيجعل طريقك منيرًا دائمًا، ويربطك بالدين بطريقة سوية
والدك، صديقك، أستاذك، نبيك، قرآنك، مراجعك، أهل بيت النبوة، هي فلاتر لحياتك، استخدمها كلما دعت الحاجه لذلك، وهي ستحميك من تلك الشوائب المؤثرة بعاطفتك اتجاه دينك، وستصقلك حد اللمعان والنقاء، فهي كالصدفة التي تحمي اللؤلؤة من أن تتلوث من الداخل لتبقى ناصعة البياض.