المحطات الجحيمية بحياتنا
نسخة الألعاب الأولمبية الحالية في طوكيو تحمل طابعاً خاصاً لم نشهده من قبل حيث أنها مسماة برقم 2020 ولكن مضمارها لم توقد شعلته إلا بمنتصف عام 2021. منذ صغري وأنا أعشق دورة الألعاب الأولمبية وأحب فيها أجوائها التنافسية وتحطيم الأرقام العالمية السابقة وأحب استشعار ضخ الأدرينالين في جسمي وقت احتدام المنافسة والتشويق، والأكثر تفضيلاً أنها ألعاب جامعة للعائلة وأوقاتهم المرحة والسعيدة.
بمباراة ”الركبي“ بين فريق جنوب أفريقيا وأستراليا استحضرت الفطنة الحكيمة للزعيم نيلسون مانديلا وكيف كان استغلاله لشعبية هذه اللعبة لتكون أحد المحاور الرئيسية في استراتيجيته في توحيد البلاد والقضاء على العنصرية، واستطردت بعيداً عن أجواء المباراة المثيرة إلى التأمل في الصورة التي طالما قشعرت بدني يوم أن دعا مانديلا سجانه الأبيض للوقوف جانبه بيوم تنصيبه رئيساً للدولة بعام 1994، والتساؤلات كيف قضى مانديلا سنواته ال27 في السجن وكيف تحول من زعيم تمثيل المقاومة المسلحة للأغلبية السود في جنوب افريقيا ضد نظام الفصل العنصري «الأبارتايد» إلى شخص ذو نفوذ وتأثير كبير للمصالحة والوحدة الوطنية.
في مسيرة حياتنا جميعاً نمر ببعض المحطات التي نكون فيها محطمين.. مهشمةٌ قلوبنا.. وخائبةٌ ضنونا وآمالنا.. نكره فيها وجودنا ونتمنى لو نجد طريقة لإنهاء حياتنا، وهنالك أكثر من سبب من الممكن أن يجعل حياتنا جحيماً بهذا الشكل بغض النظر عن الشكل الذي كانت عليه ردود أفعالنا بتلك المحطات وهل كانت تتناسب مع حجم الموقف أم كان مبالغاً فيها.. الأهم هو كيف ستعبر هذه المحطة وما هو الشكل الذي دخلته فيها وكيف أصبحت حين خرجت منها.. بأي حال - إنك لا تزال على قيد الحياة الآن وهذا أمرٌ حسن، لكن كيف تخطيت هذه المحنة.. وماذا سيكون أثرها على بقية حياتك؟؟
لعبور هذه المحطات بشكل آمن من المفيد جداً الفصل والتعامل مع مجريات حياتنا في ثلاثة صناديق زمنية منفصلة: الماضي والحاضر والمستقبل، والأفضل أن نقوم بشكل منهجي وعملي بدمج الصندوقين الأوليين معاً في القيام بأدوارنا الحياتية اليومية وأداء المهام المنوطة بنا مع التجاوز الواعي للأمور التي حصلت معنا بالماضي، والعمل بشكل مستقل بالصندوق الخاص برسم خطوط المستقبل وما يتناسب مع ميولنا وتوجهاتنا.
ولمرور هذه المحطة بقيمة عالية نحتاج لإعادة إنتاج انفسنا من جديد وإصدار نسخة جديدة أفضل منا، كما فعل نيلسون مانديلا.. حيث لو استمر أثناء فترة سجنة في تعريف نفسه بأنه الثائر المناهض وهو الشيء الذي كان يُعززه له سجانيه كل يوم لما تمكن من تصور وتحقيق ذلك التحول الشخصي الذي أخذ بيده لتغيير واقع دولة بأسرها، إن إعادته لإنتاج نفسه شخصياً وفلسفياً يُمثل تحولاً بأقصى ما يمكن تخيله من صعوبة «تحوله من ثوري متحرر يخضع لأنواع التشويه العنصري والتعذيب من قبل الحكومة، إلى سبب في شفاء بلاده من جروحه الغائرة»
إذا كان مانديلا وبتلك الظروف القاسية استطاع أن يعيد إنتاج نفسه لهذه النسخة المثالية البراقه، فإن ذلك يعني بأن أي ظروف نمر بها نحن من الممكن تغييرنا للأفضل، ولتتأكد تماماً بأنك تجاوزت ذلك الجحيم الذي مررت به يكون ذلك حين تكف عن القلق حياله والحديث عنه، وإذا قمت بتعليل أي فشل لاحقاً بتلك المحطة وما صنعت بك.. فلتعلم أن جحيمك لم ينتهي بعد.. ولا زلت تعيش ذلك العذاب.. فمن يصِفون أنفسهم بالقوة على تخطي العقبات يتحملون مسؤولية فشلهم، ويُمعنون النظر للأمام.. لا يقلقهم ما حصل بالأمس ولا ينسبون اخفاقاتهم لتلك المحطة الصعبة التي مروا بها.