عندما يصبح عطاء القطيفيين ملايين
عندما كنا نسمع ونقرأ مرارًا في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة أو عبر القنوات الأخبارية أو ما يشابها أو عن طريق بعض الأطراف المهتمين بالشأن الاجتماعي العام، أن هناك شخصًا في البلد الأوربي أو الأمريكي، يُدعى رجل الأعمال الفلاني أو الكاتب الفلاني أو الطبيب الفلاني أو المهندس الفلاني، وما أشبه من أصحاب المهن المختلفة قام بالتبرع بكذا مليون من الدولارات الأمريكية أو الجنيه الإسترليني أو الفرنك الفرنسي لصالح بعض المؤسسات الخيرية أو لدعم بعض مراكز الأبحاث والدراسات العلمية أو الجامعات التعليمية، أو دعم بعض المؤسسات التطوعية الاجتماعية المختصة بتقديم الدعم والخدمات الإنسانية عالميًّا.
كُنَّا حينها نصاب بنوع من الخجل من أنفسنا ومن عطاءات مجتمعاتنا المتواضعة أمام تلك العطاءات السخية؛ لأنه لا توجد مقارنة بيننا وبينهم في سعة العطاء والبذل والسخاء والإحساس بتحمل المسؤولية تجاه الآخر من أبناء المجتمع أو لمؤسساته القائمة على خدمة المجتمع، بسبب عدم استيعابنا لفهم حاجة المجتمع، ما انعكس هذا الفهم على عطاءاتنا الخجولة الذي قد لا ترقى لطموحات أبناء المجتمع أو مؤسساته، إذ نراها لا تفي إلا بغرض بسيط ومحدود.
وهذا يكشف عن حالة التباين الذي بيننا وبينهم في فهم واستيعاب مفهوم وثقافة العطاء وأهميتها على الصعيد الفردي والمجتمعي، وأن ثقافة العطاء هي مشاركة إنسانية واجتماعية سواء أكانت على صعيد فردي أو مؤسساتي، وذلك لخلق حالة من التوازن والاستقرار في المجتمع، واستنقاذ المجتمع من السقوط في وحل الجريمة بشتى أنواعها، إضافة إلى أن حالة العطاء تؤدي إلى ارتياح واطمئنان في نفوس أبناء المجتمع، باعتبار أن الإحساس بالآخر هو بحد ذاته يعطي نوعًا من الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعه، وكذلك يضفي شيئًا من الاستقرار والاطمئنان النفسي والروحي، وشعور الواحد منا أنه ضمن دائرة اجتماعية له حقوق وعليه واجبات، هذا يعطيه شعور بالاطمئنان أنه في وسط مجتمع عائلي، إذا احتاجه أو لجأ إليه سوف ينهض به تحت أي ظرف.
أصبحت الآن كل مؤسسة خيرية اجتماعية بين ألفينة والأخرى تكشف عن مواردها المالية وفي أين تم صرفها، وكما نقرأ ونلحظ التغير الكبير الذي طرأ على الواقع الاجتماعي في المصاريف مقارنتها بالسنوات السابقة، بل قد لا تقارن إطلاقًا، إذ تجد بعض ما تكشفه هذه المؤسسات الخيرية الاجتماعية من واقع سجلاتها الحسابية والمالية على أن مصاريفها قد بلغت في الربع الأول كذا مليون، وفي الربع الثاني بزيادة كذا مليون، وفي الربع الثالث جاءت بزيادة كذا مليون، وهكذا تأخذ المصاريف بالتصاعد، وهذا يحتاج إلى رؤية مختلفة وإلى روح اجتماعية تحمل فهمًا واستيعابًا وإحساسًا مختلفًا في تلمس حاجات المجتمع المستجدة.
وهذا يعكس حاجة إلى مفهوم مستجد ومتغير ومختلف عن فهم العطاءات السابقة، يواكب هذا الفهم المستجد مع متغيرات الحاضر والمستقبل، أي فهم توسعي وإحساس أكبر يحمل طموح وحاجة المجتمع ومؤسساته، وكلما اقتربنا إلى قراءة الواقع ازددنا وضوحًا لرؤية المجتمع، عندها سوف تتدفق عندنا حالة من الاستشعار بمدى أهمية ثقافة التطوع والعطاء بتفكير عصري يواكب حاجات العصر ومتغيراته الحياتية.
شهدت منطقة القطيف قبل أيام قليلة عطاءً سخيًّا وكريمًا من بعض المواطنين القطيفين الكرماء، لم يكن عطاءً عاديًّا، ولم يكن العطاء من قائمة المئات أو آلاف من الريالات كما اعتدنا على سماعه في الفترات السابقة، وإن كان كل عطاء مقدرًا ومباركًا عند الله وكل حسب مقدرته ”لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها“، ولكن هذه المرة كانت أخبار العطاء مفاجئة للجميع، إذ تحول العطاء إلى فئة الملايين من الريالات بدلًا من المئات والآلاف، ولم تعد التبرعات السابقة تقارن بها.
شهدنا في العطاء الأول اثني عشر مليون ريال، وبعده بأيام قليلة أثلج صدورنا مواطن صالح آخر من المنطقة نفسها بأربعة ملايين ريال، وكل هذه المبالغ المالية المتبرع بها قد تم إيداعها في حساب بنكي لصالح جمعيات خيرية اجتماعية تقدم خدمات جليلة وعظيمة لمؤسسات المجتمع الخيرية ولأبناء المجتمع المحتاجين عونًا أو مساعدة في أي جانب من جوانب الحياة، ولا أستبعد «بإذن الله تعالى» في القريب أن تشهد المنطقة عطاءات سخية أخرى تضاهي هذه العطاءات الكريمة والمشكورة والتي تتناسب مع أحلام وطموحات هذه المؤسسات الاجتماعية العصرية.
وهذه العطاءات المميزة إن دلت على شيء فهي تدل على الروح الواسعة المتفهمة لحاجات مجتمعها المتغيرة، وأنه لم تعد المؤسسات الاجتماعية الخيرية قادرة على مواكبة تلك الطموحات الكبيرة والعمل لأجلها والاستمرار في تخطيط وتنفيذ مشاريعها الاجتماعية العصرية إذا لم يكن هناك شريك اجتماعي يتفهمها فكرًا وعملًا، فترى العون والمساعدة المناسبة في المشاركة الفاعلة لدفع تلك المشاريع الحالية والنافعة للمجتمع ولأبنائه في الحاضر والمستقبل، كما نعني بالمشاركة الاجتماعية في الفكر والوعي والمال، وهذا ما ينبغي التشجيع عليه؛ أن نفكر في كيفية العطاء ولمن نعطي، إذ يتحول مفهوم العطاء إلى أمنية مخطط لها كبقية أمنياتنا الحياتية الحالية والمستقبلية.
بهذا التفكير والتغير سوف يتحول عطاؤنا إلى عطاء ذي أبعاد اجتماعية أوسع.. عطاء مدروس فكرًا ودينًا، وبهذا يخرجنا عن المفهوم القديم، وهي العطاءات العشوائية وغير المقروءة وغير المطلع عليها، وكذلك تبعد تفكير الآخر في الوقوع في سوء الفهم أو اللوم والتقصير من أي جهة، إذ يصبح عطاؤنا متوافقًا مع خطط مشاريع مجتمعنا الحاضرة والمستقبلية، وخاصة كما ذكرنا أصبحت الكشوفات المالية البنكية المعتمدة من قبل الجهات المسؤولة التي تقوم بنشرها وتعلن عنها هذه المؤسسات الخيرية بشكل دوري شاهدة على هذا التغير، كما أنها تساعد أصحاب الأيدي البيضاء والمتبرعين والشريك الاجتماعي على كشف كم هي حاجيات المجتمع ومتغيراته، وهي وسيلة دقيقة لقراءة المتغير الاجتماعي والاقتصادي.