شجاعة التخلي
كثيرةٌ هِيَ الأشياء الجاثمة فوق إحساس السلام الداخلي لدينا ولا نستطيع التخلي عنها، ولا يكاد يكون هناك شيء أصعب بالنسبة لنا من فكرة التخلي عن شيء ما.. شيء من قيمنا او أعرفنا المجتمعية أو الأشخاص المقربين منا أو حتى عن ذلك الشعور الذي يرُاودنا كنتيجة لممارسةٍ ما تمنحنا الشعور بلذة الإحساس بالبهجة أو بالألم أحياناً... أو حتى قطعةً مِن أثاث أو ملابس باليه احياناً أخرى.. وهذا التعلق لا شك أنه يُرهقنا ويتعب نفوسنا.
قد نعتقد خطأً أن التمسك قوة كتشبث الجذور بالأرض والعكس هو الصحيح، إننا نَجُرُ الأشياء من الماضي ونُراكمها على أرواحنا وقلوبنا، ونفشل ببساطة في التطلع إلى الأمام والتغيُر للأحسن والتركيز على المستقبل، وغالباً ما نُمتحن في الأشياء ذات الصلة بالمشاعر أكثر من الأشياء المادية ونكون ضمن من يطلق عليهم علماء النفس ب ”الباحثون عن الإحساس“ حيث نبحث دائماً عن الشعور بالاثارة والتحفيز، فعلى سبيل المثال أننا عند التسوق أو عند ممارسة الرياضة نبحث عن بعض المحفزات العاطفية لزيادة الاحساس والاستمتاع بالحياة، كما في حال المبالغة بالشعور بالحزن والألم.. أو محاكاة الآخرين في الحصول على الإصدار الأخير من بعض الأشياء المادية بحياتنا «أثاث/ سيارة/ لباس/ جهاز موبايل...» غالبًا ما يكون الهدف هنا في منطقة اللاوعي: أن نبدو أكثر تميزاً وأفضل من ذي قبل أو أن نكون محبوبين أكثر أو ربما لنحصل على القليل من الاهتمام والثناء.
يميل رواد علم الطاقة إلى أن التخلي تجلي، وأن طاقة الجذب تتعاظم في حال التخلي عن الأشياء فترى الأشياء التي زهُدتَ فيها تلاحقك وتأتيك جريا «ولو أنني لست من طلاب هذه المدرسة ولا من أنصارها» لكن بالفعل هذا يحدُث مع كثير من الأشياء، ولهم هُنا مناهجهم الخاصة للتحلي بالشجاعة الكافية لذلك.
على سبيل المثال بالغالب ليس لدينا الشجاعة الكافية للانتقال لوظيفةٍ أُخرى والتخلي عن الوظيفة التي استمرينا بها عقداً من الزمن خوفاً من التغيير وذلك ما يكون عائقاً لتقدمنا المهني، وأيضاً يصعب علينا البحث عن سكن خارج المنطقة التي نشأنا فيها وذلك ربما يحرمنا الحصول على سكنٍ أرحب بمناطق أحدث نظير ارتفاع أسعار العقارات بمنطقتنا لارتفاع الطلب عليها، وهو ما يحول بيننا وبين تعمير مُدُنٍ اخرى توفر لنا مصدر رزقنا وذلك قد يضاعف علينا مصاريف العيش والتنقل، ومع مرور الوقت ولشدة تعلقنا بأشيائنا تبدأ منازلنا وخزاناتنا بالاكتضاض بأشياء لا يصدُق عليها قول إلا أنها ”خُرده“.
النبي محمد عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ما كان ليتخلى عن تراب ارضه بمكة ويهاجر إلى الحبشة ومن ثم إلى المدينة إلا لمعرفته ما يعيق تقدم رسالته ويحول بينه وبين تحقيق أهدافها المستقبلية برغم ألم فراق المكان والأشخاص المنتمي إليهم والحسافة على الوقت والجهد الذي بُذل فيها، تماماً كما هو تمسكنا بالقناعات والقيم والعادات والأعراف المجتمعية التي نحملها دوام الوقت بحقائب الظهر خاصتنا، والتي مع تقدم وعينا ونُضجنا نكون أدركنا عدم منطقيتها، ولكن نستمر في ممارستها والتمسك بها ونقلها أيضاً للأجيال التي تلينا لأننا لا نملك الجرأة الكافية لرفع راية المعارضة والدخول في نقاشات وخلافات مع الآخرين وذلك لإراحة رؤوسنا مِن الصِدامات والخصومة معتقدين أن ذلك يقودنا للسلام الداخلي الذي نصبو إليه، ولكن الحقيقة هيَ عكس ذلك تماماً.
ربما أكون مخطئاً لكن حياتنا أقصر بكثير من أن تتحمل أن نقضيها مع الأغلبية في الاستمرار على الخطأ بعد أن أدركناه.. الخطأ في الاعتقاد.. في القيم والقناعات.. في الأعراف المجتمعية التي تنطوي تحت عنوان العادات والتقاليد.. في ممارسة بعض الشعائر الدينية.. وفي التعامل مع كل صاحب حق علينا من الأرواح المحيطة بنا «بشر/ حيوان/ نبات...». وامتلاك قوة التخلي عن هذه الأشياء يسلك بنا طريقاً موحشاً لِقلة سالكيه كما يُعبر عنه أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب وذلك يحتاج لروح شُجاعة لا تأخُذها في الحق والصواب وما يتفق مع المنطق لومة لائم، كما يقول تشارلز بوكوفسكي ”أينما يذهب الحشد، اذهب في الاتجاه الآخر، إنهم دائماً على خطأ“.