رسائل الغفران
أكتب اليوم موجهاً كلماتي إلى رجل عرفتهُ عن بعد مصادفةً وأغلب الظن أني لن ألتقيه مجدداً. لا أعرف عنه أي شيء، سوى أنه «أبا أحمد» الذي غيّر بوصلة حياتي نحو اتجاه فكر السلام الداخلي.
إن الحياة ممتلئة بالمواقف والعبر، وبعد كل نصر أو هزيمة، نرتقي بدرجات النضج والعقلانية، ونقرأ كتب التغيير والإيجابية وأي شيء قد يشعرنا بالراحة والسعادة، وفي بعض الأحيان كلمة عابرة قد تشكل تغييرًا كبيرًا، يوازي ما كُتب في عشرات الكتب. أينما كنتم في زحام الحياة، اقرأوا كلامي هذا الذي أحببت أن أشارككم أياه لعله يُلهمكم ويحفّزكم للتغيير كما حدث لي.
منذ سنوات ليست بعيدة، كنت أمارس رياضة المشي في إحدى حدائق المملكة، أدركني التعب وأنا أمشي فجلست استريح على الحشائش الخضراء، كنت أتأمل لون السماء وقت غروب الشمس، إلا أن قطع تأملي صوت بكاء طفل يقترب باتجاهي وهو يجر دراجته المستأجرة بالساعات، وكنت أظنّهُ قادمًا نحوي حتى انتبهت لجلوس والده بالقرب مني، عندما ناداه تعال يا «أحمد».
كان أحمد يشتكي من طفل أخر يضربه وهو يلعب بدراجته، وكانت عيونه الغارقة بالدموع تستنجد بوالده للدفاع عنه، مسح الوالد دموع أحمد وسأله إذا ما كان يؤلمه شيء، وبعدها طلب منهُ العودة للعب بدراجته، لكن خوف أحمد كان أكبر من أن يعود مكانه خاصة أن من ضربه مازال موجودا هناك.
سحب أحمد يد والده بدعوة منه للذهاب معه وحمايته، ابتسم الأب في وجه ولده وأخبره بأنه لا يوجد شيء يدعوه للخوف، وأنه سيراقبه من بعيد، فسأل أحمد والده:: ”بابا لو ضربني مرة ثانية؟“ وبكل هدوء رد الأب: ”قل له الله يسامحك“.
شدني الموقف عندما شاهدت أحمد وهو يعاود اللعب بدراجته، وكانت مخاوفه بمكانها لأن الطفل انهال بالضرب مجددا على أحمد دون سبب، وكنت أسمع: ”الله يسامحك“ بصوت أحمد الذي لم يتجاوز 9 سنوات وهو يبكي، توجهت عيني إلى أبي أحمد وهو يسير نحو ولده، أنزل جسمه بموازنه مع ولده واحتضنه بيده واحتضن بيده الأخرى الطفل الآخر، سأله عن اسمه، فلم يجبه، ضحك بوجهه وقال له: ”هل تريد ان تتسابق مع ولدي أحمد بالدراجات؟“ فهزّ الطفل رأسه بالموافقة. فاستأجر أبو أحمد دراجة أخرى لكن المدهش أن أحمد استمتع كثيرا عندما شاركه هذا الطفل اللعب واترسمت الإبتسامة على الولدَينِ معًا حتى أن أحمد لم يكن يرغب بالذهاب للمنزل وطلب من والده البقاء أكثر ليلعب مع صديقه الجديد.
إن هذه النهاية التي تشعرك بالسعادة هي نفسها التي استشعرتها رغم بعدنا عن الموقف. رحت أمشي نحو سيارتي وأنا أتذكر الموقف طويلا بذهن شاردٍ، كيف حوّل أبو أحمد البداية المشحونة بالخوف والدموع لنهاية بصوت الضحكات والصداقة.
صرتُ أفكّر بالمبدأ الذي انتهجه أبو أحمد في تربية ابنه، أ هو العفو أم الطيبة أم العطف؟
وحقيقة الأمر أنه اتبع أجمل مبدأٍ وهو «التسامح» الذي من نتائجه شعورنا بالسعادة والحب وهي إحدى إيجابياته.
هناك سلوكيات علمها أبو أحمد ابنه كما علمني إياها حيث كنت محظوظًا يومها بوجودي بالقرب منه، أغلب الناس في الموقف السابق تميل لتعليم أولادها مبدأ الدفاع عن النفس وتشجيعهم بالرد بالمثل باتباع مقولة «العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم» فخلقت في أجيالنا حُبَّ العنف والانتقام منذ الصغر «الله يسامحك» … مقولة بسيطة لكنها من أعمق رسائل التسامح التي تُعلّم أولادنا أن نقدم العفو قبل الإساءة. لنتخيل لو أن الناس علّموا أبناءهم هذا الإتجاه كم ستكون مدارسنا هادئة دون عنف وإساءات وتنمّر، ولتخلصنا من مشكلة تربوية كبيرة بكلمة واحدة وهي «الله يسامحك».
ابتسامة الأب التي استقبلت ابنه وهو يشتكي ما حدث، وابتسامة الأب بوجه من ضرب ابنه واحتضانه الاثنين سواسية، كم كان جميلا أن نعلم أبناءنا لغة الرحمة والرفق حتى مع من أساء لنا؟
وكم كان مبدعا التعامل بذكاء فلم يسأل الأب الطفل عن سبب سلوكه لم ينصحه ولم يعاتبه ولكنه عالج كل ذلك في سلوك واحد عندما أدرك أن سلوك الطفل ناتج عن رغبته باللعب بالدراجة كما يلعب الأطفال من حوله.
وكأنما أبو أحمد يُعلّم ولده بشكل غير مباشر، أنه ربما يبدو سلوك من حولنا غير ودي تجاهنا لكنه لا يعكس ما في داخل الشخص نفسه، وهذه الانطباعات قد تنكشف لنا فور تعرفنا عليهم أكثر ومسامحتهم. وهذا ما خلق الصداقة من بعد البغضاء.
نحن لا ندعي الكمال، ومهما بلغنا من الحكمة، فجميعنا نقع بمصيدة الخطأ، قد نسيء وقد يُساء إلينا، تربية أبو أحمد لولده، جعلتني أدرك أن التسامح مشروع بناء حجر أساسه يوضع منذ الصغر، ولا يُفهم معناه من خلال عبارات تطبع على جدارن المدارس، ولا من خلال عبارات التوجيه والنصائح التي تصدر من الأهل والمجتمع، فمبدأ التسامح لا يُفهم إلا بتطبيقنا له نحن أمام أبنائنا، وتعليمهم إياه وتطبيقهم له بدءًا من المنزل ثم المدرسة انتهاء بالمجتمع ككل.
لنعود لواقعنا لنرى كم روحاً بريئة فارقتنا بسبب ثأر سابق؟ وكم من تشوهات وعاهات حدثت بسبب رد اعتبار؟ وكم من طلاق ترك خلفه خصامًا بين العائلات؟ وكم من صداقة تدمّرت وتحوّلت لعداء؟
وكم من جارٍ آذى جاره بقسوة؟ وكم من مرضى في العيادات النفسية يعانون الأرق والاكتئاب بسبب ظلم لم تتحمل أجسامهم تجاوزه؟ وكم من نظرات مرت أمامنا ممتلئة بالحسد والكراهية؟ وكم …. وكم.…. والأهم ليسأل كل واحد منا، كم عدد الأشخاص الذين بحياته ويصعب أن ينسى لهم موقفا أو يغفر لهم خطيئة أو ينسى لهم أذية؟
شهدت في أحد المساجد مشاجرة رجلين خرج كل واحد منهم حاملا ولده بوجهٍ حانقٍ لأن طفلا عضّ طفلا آخر أثناء الصلاة مما أثار غضب والده. أحيانا سلوكياتنا أكبر من مشاكلنا، نحن نطحن بذور الغفران من عقولنا حتى تجمدت حرارة العلاقات الاجتماعية بيننا. إن براءة الأطفال قائمة على بياض قلوبهم ونسيانهم الأذى بسرعة، تسعدهم ابتسامة أو احتضان، لا تفقد روح الطفل بداخلك مهما كبُرتَ فستحتاجها ببعض المواقف وستكون سبيلك للسعادة وطُهر البال.
من السهل في علاقاتنا أن نقابل النار بالنار لكنها لن تخمد ولن تحل المشكلات، بل ستزداد لهيباً، يقضي الكثير منا وقتاً وجهداً بالتفكير بأساليب إثبات لنفسه والآخرين أن الظلم الواقع عليه كبير وأن ظالمه شخص لا يستحق حتى النظر له. هذا التفكير يستنفذ العمر والطاقات، إن التفكير المستمر بالأذية والإساءة التي يفعلها الآخرون معنا تبقي روحك متعلقة بالماضي وتؤذي روحك وتشعرها بالألم لمواقف ربما نسيها الآخرون تجاهك.
هناك عداوات مرت عليها سنين العمر تنتظر قدوم المسيء للإعتذار والإحساس بالندم وينتهي الأمر بالشعور بالسوء أكثر في كل يوم يمضي دون ذلك، قد تشعر أنك محق في موقفك ويكون الشخص الذي تخاصمت معه يشعر بنفس الشعور ونفس الثقة بأحقيته، مشكلتنا أننا نضيع وقتنا بانتظار سلوك الآخرين الذي لا نملك التحكم فيه عوض أن نفكر بالسلوكيات التي نستطيع تغييرها بأيدينا. ومنها طارق باب التسامح.
لن يتذكرك الناس وأنت غاضب ولن يُفخر بك وأنت حاقد، سيتذكرك الجميع وأنت مسامح، ستكون قدوة ومصدر إعجاب للجميع.
شاركت الصحف يوم العيد قصة مسامحة عائلة سعودية لقاتل ولدها بعد صدر الحكم عليه بدون مقابل، غير أجر الله وثوابه، تلك القلوب التي عشقت خالقها واتخذت من إحدى أسمائه «الغفور» منهجاً لها، جعلت العالم يرى جمال ديننا وقوة مبادئه بأصعب المواقف.
نحن نمضي سويعات من حياتنا يومياً، لتنظيف بيوتنا من الغبار والأوساخ لأننا ندرك أن النظافة تخلق لنا معيشة مريحة ونقية وصحية، ليتنا نمارس نفس الفكرة وننظف يوميا قبل النوم أرواحنا من الحقد والغل والكراهية سنعيش براحة بال وننام بهناء وصحة نفسية.
يوجد برنامج تلفزيوني طُبّق بالعديد من الدول، فكرته الصلح بين طرفين تفرقت قلوبهم ودروبهم بقسوة حدّ الكراهية والقطيعة وسُمّي البرنامج ب «المسامح»، يجلس الطرفين ويفصلهم عن بعضهم ستار يرفع عندما يسامح من وقع عليه الظلم إعتذار المخطئ، انتهت بعض الحلقات بالصلح وكم هي لحظات جميلة هي لحظات عناق الغفران والاشتياق. وانتهت بعض الحلقات بصرخات الشتم وعدم تقبل الصلح والخروج بكراهية أكبر وعدم الرغبة بالاجتماع.
نحن بحاجة إلى أفكار إبداعية إنسانية، نشارك فيها في إصلاح خصومات العزيزين علينا، ونحتاج لمبادرات من أصحاب الصوت المسموع من جميع المجالات الدينية والثقافية والمهنية لنشر ثقافة الصلح والتسامح.
علينا دائما في الخلافات أن نكره السلوك وليس صاحب السلوك، عندما نطبق هذه الآلية سيبقى الودُّ حاضرا دائما وستزول الخلافات بسرعة دون جراحات بمجرد تغيير السلوك الخاطىء........ وتذكر أن تسامح بقلب أبيض بعيدا عن المنة وتذكير الآخرين بفضل مسامحتك لهم
باستمرار.
نحن ننتظر من الآخرين أن يتفهموا أخطاءهم ولكن هل جربنا أن نخلع نحن من قلوبنا الموقف ومسامحتهم رغم ذنبهم، علينا أن نسامح حتى لو كان الشخص لا يستحق ذلك، فعندما تسامح تصبح الأتقى عند الله.
هناك مواقف يصعب فيها إرجاع الود كما كان بعد الصفح وليس مطلوب منك إرجاعها ليكون الاحترام الرابط بينك بعد الصلح وهذا يكفي. كم ستشعر براحة كبيرة حينها ستشعرك بالخفة بعد إزالة الضغط عن كاهلك
كأنك أزلت غصة عالقة في حلقك.
ما زال المجتمع يستصعب ثقافة التسامح لأن أغلب الناس تفرض في تحليل الأمور وتزيدها التعقيد حساسية فتستصعب الغفران مع العلم أننا لو بسطنا الأمور لوجدنا كلمة آسف إذا قيلت تكفي لنسياننا الأذى نفسه. وأحيانا ورغم رغبتنا بالإعتذار يقف الكبرياء عائقا أما رغبة مشاعرنا فنتمسك بذلك الكبرياء لكن بداخلنا قنبلة من الندم، لذلك أكثر الحاقدين غير راضين ولا سعداء في حياتهم وأصبحت نفوسهم أكثر النفوس نفاقا وضغينة لأنهم مهما أرادوا التقدم هناك شيء يشدهم للخلف والماضي. وفي النهاية لا أحد يأبه أصلا لهم.
أنا اعلم أن التغيير والتقبل لفكرة التسامح ليست بالسهولة وتبدو أحيانآ مخيفة، ويراها البعض غير مصيبة، لكن مهما كونت الأحقاد جدرانا مؤصدة في قلوبنا اِتبعْ بصيص ضوء التسامح المنبثق من الشقوق الصغيرة في الجدران واسعَ لتوسعتها حتى تخرج من وحل الكراهية.
إن الأحقاد لا تورث غير الحزن والتعاسة، لا نعلم كم سنحيا ولا أعتقد بوجود شخص يرغب بإضاعة جمال عمره بمعارك النزاعات، ولأننا نحن من نخلق الفرص في حياتنا لنستغل المناسبات السعيدة والأوقات المناسبة للبدء بالتسامح بين الطرفين وها هو عيد الأضحى قادم لنجعل الرسول ﷺ قدوتنا ونشجع أنفسنا ونغير فكرنا لتتغير حياتنا للأفضل.
رسالة ومسج ترسل بكلمات ك «أعتذر منك» أو كسؤال «كيف حالك» أو كمشاعر «أفتقدك» أو كطلب «أرجو منك السماح» أو كمعايدة «عيدي سيكون أجمل معكم» أو كمسامحة «سامحتك لوجه الله ورضوانه» ….. افسحوا لأنفسكم مجالا للتعبير وأرسلوا كلماتكم المحبة لمن أثقل الخصام معهم أرواحكم لا يمكنكم إدراك التأثير الإيجابي لمثل هذه الرسائل وكم أن شجاعتكم بإرسالها ستصبح معدية للآخرين وسيخطون بخطواتكم. هذه المبادرة ستجلب لك راحة الضمير سواء قبل الطرف الآخر رسالتك أم لم يقبلها لأنك طهرت نفسك من سوادها.
لنخلق مجتمعا فيه فكر أبي أحمد في كل بيت، ولنقطع الجذور الميتة من ساق علاقتنا المتهالكة ونغرسها من جديد بتربة نظيفة لتنبت جذورا جديدة قوية بلا ماضٍ وبلا بقع سوداء لتنبت نبتة مزهرة بثمار الود والغفران والتسامح.