آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

شيخ القديح في ملكوت الله.. الحاج أبو ناصر الخاطر.

زكريا أبو سرير

من أصعب ما يواجهه أي كاتب عندما يقف عند شخصية ممتلئة إنسانيًّا ودينيًا وعلميًّا واجتماعيًّا، فضلًا عن أنها شخصية فاعلة وناشطة في عدة مجالات عديدة، المرحوم الحاج أبو ناصر من هذه الشخصيات الصعبة، إذا تناولها كاتب أو باحث وأراد أن يبحر في أعماق تلك الشخصية الذي تحمل سمات وإبعاد إنسانية واجتماعية مختلفة، يتطلب منه جهد وتفكير مضاعف في عملية التنقيب في عالم تلك الشخصية المزدهرة بالعطاء والفكر، باعتبار أن هذه الشخصيات لا تمثل نفسها فقط، بل تمثل كيانًا ومجتمعًا ووطنًا، كان ذلك هو الوجيه المرحوم الحاج سعيد بن ناصر الخاطر «رحمه الله». منذ أن عرفت وتشرفت بهذه الشخصية المرموقة وأتذكر كان في عام 2000 م عندما وُفِّقت لزيارته في مجلسه العامر في مسقط رأسه القديح عن طريق ابنه البار والأخ والصديق العزيز حسن الخاطر «أبي ميرزا»،والقديح تعد واحدة من قرى محافظة القطيف الذي تكسوها الزراعة من كل جانب، كما أنها تتميز بكثافة سكانية وبمجتمع مترابط ومحافظ ومتدين ومثقف وممتلئ بالكفاءات العلمية والرياضية.

هذه القرية المباركة تمتلك روحًا وطنية متميزة كبقية قرى ومكونات المجتمع القطيفي، ويشهد لأبنائها مشاركات وطنية عديدة نالت أوسمة متعددة من الجهات المسؤولة تشكرهم على كل مجهوداتهم وتفاعلاتهم المتنوعة تجاه وطننا الغالي.

ويعد المرحوم الحاج أبو ناصر واحدًا من أبرز الشخصيات القطيفية الرائدة ومن الرموز والناشطين في مجال تحسين وتطوير البيئة الثقافية والاجتماعية والتعليمية والدينية والوطنية، إذ استفاد على يديه أجيال عديدة من أبناء القطيف. كما لعب الوجيه المرحوم أبو ناصر دورًا مهمًا في حياته المباركة، فكان جسرًا بينه وبين غالب مكونات المجتمع القطيفي بشكل عام، فضلًا عن أنه كان حلقة الوصل الطيبة بينه وبين الجهات المسؤولة في البلد، وكان حضوره في المشاركات الوطنية يعبر عن تمثيل فعلي لمجتمعه القطيفي، كونه الشخصية المؤثرة والجاذبة في مجتمعه القديحي بشكل خاص وفي المجتمع القطيفي بشكل عام، وغالب الأطياف القطيفية تكنُّ لهذا الرجل العظيم كل المحبة والاحترام والتقدير والثقة، وهذا ناتج عن جهود وإنجازات جبارة بذلها هذا العملاق بإنسانيته ووطنيته المخلصة والمحبة لمجتمعه وأبنائه.

عام 1933 م كانت ولادة هذا الرجل المبارك حيث عاش 89 عامًا. قطع تلك الأعوام المباركة من حياته الطيبة على مراحل عديدة وظروف مختلفة عايشها مع مجتمعه أولًا بأول، وكان في كل متغير هو الوجه البارز فيه، وهو الفارس الذي يمتطي فرسه وإن أصبح شيخًا. ولكن كيف عاشها؟ وكيف استثمرها دنيا وآخرة؟ كثيرون هم من بلغوا هذا العمر وأكثر من ذلك، ولكن العبرة ليس في المدة الطويلة أو القصيرة، بل العبرة فيمن استطاع أن يكون له فهم مستوعب للحياة.

ورد في الحديث الشريف عن رسول الله ﷺ أنه قال: ”من أراد الدنيا فعليه بالتجارة، ومن أراد الآخرة فعليه بالزهادة، ومن أرادهما فعليه بالفقاهة“. المرحوم المؤمن الحاج أبو ناصر، أحب أن يختار الأفضل من ضمن هذه الخيارات الثلاثة الواردة في الحديث الشريف، فاختار الحالة الثالثة، فجمع بين الدنيا والآخرة واتخذ طريقه نحو الفقاهة، باعتبار أن معنى مفهوم الفقاهة حسب ما فصله سماحة المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي «رحمه الله»، في بحث مفصل بعنوان الفهم المستوعب للحياة، وأوضح سماحته أن للفقاهة معنيين: الأول، يُراد به المسائل والأحكام الشرعية المبوبة؛ من أول الطهارة الى آخر الديات، فعلى الإنسان أن يكون فقيهًا ومجتهدًا «على الاصطلاح المشهور». والثاني، وهو المعنى الذي عُبر عنه في عديد الآيات والروايات، وهو فهم الدين والدنيا، وفهم الدين، يشمل أصول الدين - فروع الدين - الأخلاق - الآداب - المحرمات والواجبات - المكروهات - التاريخ - الردود - الاحتجاجات، وما أشبه ذلك. إلى جانب هذه المجموعة من المعاني، ثمة معانٍ مشهورة في الفقه مثل: الطهارة - الصلاة - الحج - الخمس - المضاربة - الشركة - النكاح - الطلاق - الحدود - الإرث، وما أشبه ذلك، وكثيرًا ما يُعبر في النصوص الدينية؛ كتابًا وسنّة، عن هذا الفقه؛ بالفهم المستوعب. والمرحوم أبو ناصر، بشهادة أبناء المجتمع ووجهائه ومن اقترب منه، رجل يحمل سمات إنسانية عديدة، في النبل والتعقل والرزانة وسعة الأخلاق والفهم الواسع في الأمور الاجتماعية وفي المسائل الشرعية والمدرك لحاجات مجتمعه الحاضرة والمستقبلية، كما أنه يتمتع بهمة عالية كهمة الشباب أو أكثر، ويده كريمة بيضاء، وروحه اجتماعية ووطنية لا حد لها. المرحوم جاهد نفسه لكي يكون مجموعة إنسان في إنسان واحد، أحب أن يكون خطيبًّا دينيًّا مفوهًا فكان له ذلك. أراد أن يكون شخصية دينية وثقافية واجتماعية وفاعلة وبارزة فصنع له ما يريد.

أراد أن يكون أبًا وأخًا وصديقًا لكل أبناء مجتمعه فاحتضنه الجميع وبدون أية مقدمات. استوعب الدنيا والآخرة فكان من الذين خصهم الله بقول الكريم: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (الأحزاب: 23).