لا تقُل شُكراً
تتكرر على أسماعنا باستمرار عبارات الحث على شُكرِ النعمة - ”بالشكر تدوم النعم“ و”لَئِن شكرتم لأزيدنكم“.. أقف طويلاً وأُمعن النظر.. كيف يتأتى لنا شكر خالقنا؟؟ وماهي طريقة وكيفية الشُكر المطلوبة منا لمن أنعم علينا بكل هذه النعم؟؟ ولماذا الشاكرين هم قِلة؟؟ وما هو سر ربط اسمهُ جّل وعلّا «الشكور» بهؤلاء القلة من عبادة، حين يقول ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبَادِي الشَّكُورُ﴾؟؟ وهل يسعُنا نحن بني البشر أن نكون من عباده الشكورين؟؟.. نقابل الإساءة بالحسنة، والمنع بالعطية، والتجاهل بالوصال، وأن نرد الفعل الحسن بعشرة أضعافه، ومن تقرب منا شبراً نتقرب له باعاً، ومن أتانا مشياً أتيناه هرولةً؟؟
وإن صحَ قول ”إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل“ فذاك ياخذنا لنهاية طريق صعب البلوغ، أن نكون من ذوي الفضل فضلاً أن نكون من عبادهِ الشكورين!! ويقودنا ذلك إلى أن التلفظ بالشُكر بالقلب واللسان وذِكرُ النعم واستشعارها والشعور بالامتنان تجاهها لا يكفي وإن عُدَ ذلك من الأمور المحمودة والحسنة جداً.. فإن حق قوله تعالى في كتابه بأن آل داوود من عباده الشكورين القلة، فذلك لم يتحقق إلا بما مَنَّ عليهم بِسُبُلِ رشاده أن يقدموا له الشكر بالعمل - بتشييد المساجد والتماثيل والقدور.
يقول جلَّ وعلا في كتابة ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا﴾ - وعلى ذلك لا تتحقق غاية وكُنه الشُكر بقول «شكراً»!!.. مُنتهى الشكر يتحقق بالفعل والعمل لا بالقول فقط.. فحين يهبنا الله نعمة وجودنا بهذه الحياة يكون شكر ذلك في تسخير وقتنا وجهدنا في الغاية والسبب من وجودنا بالحياة.. ونعمةُ العافيةِ يتحقق شكرها برعايتها والمحافظة عليها.. ونعمة الأب والأم شكرها برِهُم ورضاهم.. ونعمة الزوج شكرها أن تكون بحق لباساً له/ا كما يجب عليك أن تكون.. ونعمة المأوى شكرها أن نخلق فيه بيئةً صحية آمنة مملوءة بالود والوئام.. ونعمة الأولاد شكرها الاهتمام بهم واحتضانهم وتنشئتهم مترابطين متعاضدين صالحين مصلحين بالمجتمع.. ونعمة العقل شكرها بطلب العلم.. ونعمة العلم شكرها بانتفاع من حولكَ بِعلمِك.. ونعمة الأمن والأمان شكرها الولاء والبِرُ للأرض التي نقيمُ عليها.. ونعمة راحة البال شكرها بالتأمل والتفكر.. ونعمة القوة شكرها بمساعدة المعوزين.. ونعمة الثراء شكرها بالمواساة والعطف على الآخرين.. و.. و.. و..
يا الهي.. لا أرى أعمال الشكر تنتهي أو تُختصر.. وعلى الضفةِ الأُخرى كيف لنا يا رب التقدم بالشكر عملاً على الضعف والمرض.. وكيف لنا بالشُكر عملاً على الفقر وقلة الحيلة.. وكيف لنا بالشُكر عملاً على الفقد.. وكيف لنا بالشُكر عملاً على البلايا وعلى الحرمان...
داوود حين عرفَ الله حق معرفته لم يصل لمرتبة ”عبادي الشكور“ إلا حينما اقرَ لخالقه بأنه مهما صنع لم ولن يصل لمستوى الشكر الذي يليق بمقامة جلَّ وعلا - حيث خاطب ربه «يا ربّ كيفَ أُطيقُ شُكُركَ على نِعمك.. وإلهامي وقدرتي على شُكرِكَ نعمة لك» فجاوبه خالق السماء: «يا داوود الآن عرفتني».
تأملات كثيرة جداً لا يسعُها المقام.. فهل يا إلهي هل حَقَ علينا أن نكون من الشاكرين حين نقول «الحمد والشكر لك يارب» - بعد وجبةٍ مليئةٍ بصنوف المأكولات الشهية بذلك المكان الراقي الذي دفعنا فيه فاتورةً ما أكلنا مبلغاً لربما سدَ قوتَ جائعٍ مدةَ شهرٍ كامل.. كما هو شُكر من قال: ”أني ما شبعتُ قطّ.. أخاف إن شبعت أنسى الجياع!“