ورحلت سمية
سمية!... من تكون سمية؟... حينها لم أفهم معنى الرسالة بل لم أجهد نفسي في التفكير أصلاً. فمسألة أن تفتح عينيك وأنت نصف نائم لتشاهد مسجات الجوال لا شك هي مسألة صعبة. خصوصاً عندما تكون المهمة مزدوجة كأن تنهض من السرير وأنت تحاول القراءة. وبالرغم من ذلك لم أتفاجئ كثيراً حيث اعتدت منه في إقحامي في ذائقته الادبية. وحسبت بأنها إحدى الرسائل الوجدانية المعتادة. وما أن أصبحت في مرحل الإفاقة حتى بدأت بربط الأحداث. وعرفت بأنها أصدق رسالة كان قد أرسلها مذ عرفته.
والا?ن بعيداً عن هوية ”سمية“. إلا أني وجدتها في التصنيف الأول ضمن مذكرات ”بيكاسو“ حينما قال هناك نوعان من النساء ”الملهمة وسجادة الأحذية“ وبالرغم من محدودية التصنيف وقسوة العبارة إلا أنه يبقى ”بيكاسو“. فكلما تبسمت ملهمته تساقطت أبيات الشعر كما تساقط الثمار في جنة عدن. لقد أطلق النقاد مسمى ”المرحلة الزرقاء“ من حياة بيكاسو في الفترة التي جاءت بعد وفاة صديقه. والتي تركت تلك المرحلة طابع الكآبة على أغلب رسوماته. إلى أن ظهرت الفرنسية ”فيرناند“ والتي أخرجته من تلك ”المرحلة الزرقاء“ إلى ”المرحلة الوردية“ حيث كان ذلك في خريف 1904. وقد استمرت العلاقة بينهم سبع سنوات. وقد كانت تلك الحقيبة الفنية مميزة في تاريخ الفن بحسب أطروحات الباحثين. فما أن بدأ ميلاد العلاقة الرومانسية بين ”بيكاسو“ و”فيرناند“ حتى بدأ قلب وعقل ”بيكاسو“ يتمخض. وعوضاً عن ولادة كائن حي يخرج من رحم ”العاشقة“، إلا أن الولادة كانت من أحاسيس ”بيكاسو“ فقد جاء بالمدرسة التكعيبية Cubist paintings. والتي ألهمت متذوقي الفن حول العالم. وبعد أن انقطعت العلاقة فيما بينهم ظل ”بيكاسو“ يبحث عمن تبقي أحاسيسه فوق نار هادئة حتى ترسانة الابداع فياضة. ويقول جلال الدين الرومي ”الإلهام الذي تبحث عنه موجود مسبقا فقط أصمت وأنصت“. ولكن ما عزاء أحد لا يعرف الصمت والإنصات إلا من خلال ملهمة يا بن الرومي؟!.
عندما جلست أنظر إليه وهو يسرد قائمة من الأعمال الشعرية ويرمي بمجموعة قصصية كان قد كتبها في ”المرحلة الوردية“ كما كان ”بيكاسو“. حينها ظهر لي وكأنه شخص جديد لم أعهده من قبل. باستثناء عيناه الزرقاوين. بينا رست مشاعره بنا في ميناء مهجور كان تركه منذ سنين. فشعرت بتنهيداته المؤلمة. سألته أين أنت عن هذه الخزينة؟... فلم يجبني وإنما أشار إلى أن مدة الزيارة قد انتهت وأنه على موعد مهم مع أسرته. صحوت في اليوم الصباح وإذا بتلك الرسالة على الهاتف التي خطها الشاعر الأعشى قبل مئات السنين يقول فيها: رحلت سمية، غدوة، أجمالها.... غضبى عليك، فما تقول بدا لها؟... وللقصة بقية. فعرفت لاحقا بأن كان له ملهمة مشرقة الطلة كما بياض بلقيس حينما كشفت عن ساقها... وكانت إذا حكت غردت كما هدد سليمان وإذا رمقت تحولت لزليخة... لقد كان يستأنس بوجودها ويشغله حسنها فكلما شاهدها شعر بدفأ الشمس في فصل الشتاء. وما أن حانت ساعة رحيلها من مكان العمل حتى سقطت شمسه في قاع الأصيل وجفت قريحته للأبد.