آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 1:33 م

المُبدع ومُتناقضات الحياة!

زينب البحراني *

لا يُمكن أن يكون الفنان أو الأديب مُبدعًا حقيقيًا وأن يكون انسانًا عاديًا في الوقت ذاته، أن تكون عاديًا يعني أن تكون داجِنًا، مُتكيفًا قلبًا وقالبًا مع تفاهة تفاصيل الحياة اليومية ودائرًا في طاحونتها، برغيًا مُسخرًا لخدمة النظام النمطي للمُجتمع كي تتسق معه وتتمكن من العيش فيه ونيل قبوله ورضاه، بينما جذور الإبداع تبدأ من الرفض الكامل لهذا التدجين والتمرد عليه.

شخصية المُبدع الحقيقي يصعب عليها الاندماج مع الكذب الذي يتطلبه التكيف مع سخافات المُجتمع ومظاهره النِّفاقيّة، فلا هو يستطيع تحمُّلها، ولا المُجتمع يستطيع تحمل تسفيهه تلك الأوثان التي اعتاد اعتبارها جزءًا لا يتجزأ من وجوده لأن في تسفيهها تقليلاً من شأن هذا الوجود، ويصعب على تلك الشخصية الاندماج مع الظروف الاقتصادية ما لم يكُن ثريًا بالوراثة، لأنه سيكون مضطرًا إما للرزوح تحت ذل شظف العيش وتجرُّع زعاف الفقر، أو الانصياع لعبودية الوظيفة ومُتطلباتها المهينة التي تنتقص من شأن إبداعه وروحه الفريدة من نوعها مُقابل أن تُلقي عليه دُريهمات معدودة آخر كل شهر قد يحظى الأغبى منه بأكثر منها لتفوقهم في تقبُّل برمجة عقولهم وأنماط حياتهم، وهو ما يرفضه كبرياؤه الذي يعتبر هذا التقبل أقرب إلى سلوك ”الروبوتات“ لا البشر الأحرار.

مصاعب اندماج المُبدع الأصيل مع المُجتمع تدفعه لاختيار العُزلة طلبًا للسلام المعنوي وفرارًا من الصراعات مع من يحتاجون ملايين السنين لفهم أبجدية أسلوب تفكيره، وانتقاء من يختلط بهم في دائرةٍ ضيقة يثق بها ويرتاح إليها، لذا يصِم البعض المُبدع بوصمَة ”الانطوائية“ لأنهم يتوقون لاختراق حدوده الخاصة ولا يستطيعون، وإذا شاءت الأقدار أن يحظى بشيء من الاهتمام الجماهيري لعملٍ إبداعي حالفه حظ البزوغ إلى العَلَن؛ كثر حاسدوه والساعون لإفساد أمره ظنًا منهم أن ما رأوه منه أقل من أن يستحق التقدير!

ثمة نوعٌ من المبدعين المُعاصرين يجد نفسه مُضطرًا لارتداء شخصيةٍ سطحية تليق بتفاهة العالم الخارجي الذي يواجهه كما يرتدي معطفًا واقيًا من الأمطار والرياح والغُبار لحماية نفسه قبل خروجه من منزله، فيتبادل كلمات المُجاملة الرخيصة مع من يُقدمونها ومن يتوقعونها رغم يقينه أنهم لا يستحقونها تجنبًا لنعته بالفظاظة أو انعدام الذوق، يُقدم فروض الولاء لوظيفته رغم أنها لا تقع على خارطة احترامه مُداراةً للقمة عيشه، ويتكلف حضور بعض المُناسبات المُجتمعية التي يعتبرها سمجة ثقيلة الظل حفظًا لتلك الشعرة التي بينه وبين أولئك الناس من الانقطاع، وما أن يعود إلى منزله حتى يُلقي بتلك الشخصية السطحية التي أثقلت كاهله على مشجبها، ويسترد شخصيته الحقيقية العميقة بكل رغباتها وطموحاتها، بكل ذوقها الغريب، وولعها بسبر أغوار الماضي وحكمة السنين واكتشاف الذات عن طريق مُمارسة هواياته التي يعتبرها بعض عامة الناس ”مضيعة للوقت“ ويظنها يعضهم الآخر ”ضربًا من ضروب الجنون“!

لطالما كان المُبدع غريبًا وحيدًا في كل الأزمان، لكننا في زمنٍ يُعزز من غُربة المُبدع والمُثقف أكثر لاعتماده على المُبالغات في الظهور الاجتماعي باعتبارها من معايير النجاح البشري، زمن يجعل من الكماليات أساسيات، والأساسيات سخافاتٍ فائضة عن الحاجة، وتلك الغُربة المُضاعفة تتطلب تقنيات مُعقدة لا تقوى عليها روح كل مُبدع نقي لتحقيق التواؤم مع مُتناقضات الحياة، وهو ما يُبشرنا بمُستقبل يتناقص فيه مُبدعو العالم العربي.

كاتبة وقاصة سعودية - الدمام