نجاعة السرد في تصوير الواقع واظهار أدرانه
مجموعة ”أقنعة من لحم“
قرأت المجموعة التي سبقت هذه المجموعة ”ثرثرة خلف المحراب“، وأيقنت حينها أن القاص حسين السنونة من الجيل الجميل الذي لا يغادر عتبات القص مجربا إلا إذا كانت المغامرة تستحق، فقدم خلال ”ثرثرة خلف المحراب“ نزوعا عاليا للتجريب مع الامتثال لقواعد القص الراكزة والتي تؤكد هوية الجنس الأدبي وتقعّده، فجاءت تلك المجموعة غنية بالمشاعر الإنسانية والوطنية والبناءات الفنية العالية الجدران التي تؤكد أننا أمام قاص متمكن من أدواته.
في مجموعته الجديدة ”أقنعة من لحم“ والتي اختارني السنونة أن أقدم لها، والتي أعدت قرأتها عدة مرات، وجدت أن السنونة الذي كثّف وأغنى حواراته قد تفوق على نفسه في هذه المجموعة مقارنة مع ما سبقها، حيث يظهر جليا بين ثنايا النصوص التي اختارها لمجموعته أنه يعرف تماما ماذا يريد، فثمة حياة مكتملة في كل قصة، يظهر فيها السرد ليس مجرد فكرة فقط ألبست لباس القص عنوة، وإنما حيوات متضمنة تنطلق من السرد الذي يشكلها وينفخ فيها بنات الافكار بعيدا عن الركاكة.
إن القارئ المتحفّز الباحث عن الحقيقة في ثنايا السرد يلتقط بسهولة ما بين السطور ويصل بسهولة رغم حقول الشوك، وارتفاع المطبات، إلى المعنى الجميل الملتحف بالكلمات دون احساس بالابتذال، بل على العكس يرى كم هو محظوظ بنص باذخ يتجوّل خلاله بحرية، ليجد الكاتب مستمتعا وهو يقفز على الجراح يخلق منها متعة للقارئ الذي يغرس عيونه في آلام النص، فيسهم السنونة في تكوين قناعات مشتركة بين القراء، وفي تقريب المواقف من قضايا الحياة، وتكوين الوعي الذي هو غايته.
السنونة الذي يصطدم مع الواقع، يفضح عتمته ويعرّى ما أحاطه من زيف، ويكشف عن وجهه النقاب ليتيح لنا القدرة على أن نغرس عيون وعينا في جنباته، في سياق بحثه عن نهايات تعيد إنتاج هذا الواقع، وتسهم في تطوير أدوات التلقي لدينا لنفهم هذا الواقع أكثر فأكثر، ونشكل من خلال الرمزية النادرة والمستخدمة بعناية إبداعية عالية، يعطينا مبضع نجرح فيه الواقع ونخلصه من الزوائد، ثم نعيد لظم جراحه معا، من خلال نصوص أقرب لنا، وأكثر تلبّسا لحياتنا.
وحين ندخل عوالم السنونة التي اقتنصها من هذا العالم الفسيح نجدها تعج بالسخرية القاسية، نجده لا يكتب بقلم رقيق كغيره من الكتّاب، وإنما يمسك سكينا يقطّع أوصال الجزر الإنسانية المعزولة، كما يقطّع بائع الحلوى قطعه لتكون أكثر سهولة للأكل، فالسنونة يجهز على واقعنا دون تعقيم، فيعمل فيه سكين النقد الجارح كي يستقيم، يلتقط من خلال نصوصه المفارقات العجيبة فيصفها ويحللها ويقيمها، ثم يخرج منها بموقف واضح، ثم يصب جام غضبه على موقف المجتمع منها في سخرية لاذعة وقاسية، وما بين سخرية وقسوة تتضح ملامح شخصية الكاتب الجسور في تعرية ملامحنا، وكشف كل الستائر عن عوراتنا، ويفضح هذا الصمت المقيت خلف الحكايات، الحكايات التي نسجتها ثرثرات ألسنتنا خلف الأسنان، الأسنان التي تحجب ببياضها الفاقع جروح الحكايات الغائرة في ألسنتنا، فيلسع ظهورنا بسياط أسئلة جارحة، تعيد بناءنا ثم تهدمنا من جديد كلعبة رمل في يد طفل بريء، يرسمنا بقلم رصاص ثم يستهويه المحي، فيمحي الرؤوس، ويترك الأقدام كرؤوس الثعابين تسير على غير هدى، يفتح في الرمل كوى لا يغلقها إلا نزف أسئلته الجارحة.
في هذا المجموعة التي تأتي فيها دلالة العنوان لتكمل دور اللغة وأسرارها وسياطها اللاذعة، وجرأة السنونة في تناول مصطلحات لا نعرف هل تثير إشفاقنا أو تشفق الآخر علينا، أو تدعونا لنشفق على أنفسنا. يكتمل المثلث الأهم من خلال المكان، ولعل نظرة سريعة في طبيعة أمكنة السنونة المنتقاة قصدا، والتي عادة ما تكون طول مساحة هذا الوطن وعرضه، تضعنا في أول السخرية حتى إذا ملأ الكاتب فضاء مكانه بالأحداث والشخصيات والمفارقات ووصف المكان بكل بيئاته البيئية والاجتماعية والعمرانية يظهر بحرقة وألم تخلف العمران الذي يرافقه تخلف العادات والعلاقات ومستويات الوعي الإنساني، فتظهر الصورة جلية لواقع مأزوم يبحث السنونة عن فك طلاسمه.
في نصوص السنونة التي يعبر فيها عن أزمة إنسانية فاقعة اللون ينفتح على الماضي ويعاين الحاضر ويداعب المستقبل، فالسرد الذي يعجز عن خلق حالة من الوعي ليتقاطع فيها هذا المثلث هو سرد عاجز، لكن السنونة ومن خلال النصوص التي تتداخل فيها المثيولوجيا مع العادات والتقاليد والدين لتفضي إلى منظومة السلوكيات التي يعيشها الإنسان العربي المهزوم أحيانا والمتخاذل أحيانا اخرى، أكد على أهمية السرد ونجاعته في تصوير الواقع واظهار أدرانه.
في مجموعته ”أقنعة من لحم“ والتي بين يدي القارئ ليحكم عليها بما شاء، ينسج السنونة بساطا غاليا، تكثر فيه الألوان الجميلة، وتتماوج فيه الخطوط الزاهية، وتنتثر على صفحته قصص وحكايات لأناس نسجوه وأحسنوا النسج والحياكة، أناس كانوا أبطالا أو ما زالوا ينتظرون الفرصة ليكونوا أبطالا في حكايات هي أشبه برسائل إنسانية تعلق في ذهن القارئ وتعيد توجيه تفكيره، لقد انتظمت القصص على شكل حياة مرسومة وناضجة، فأسماء القصص التي بدت عتبات لاذعة لكل من يدخل من تحتها جاءت هي الأخرى مختزلة وناضجة ومستفزة: ”اشتاق للعناق فأستيقظ“، ”أقنعة من لحم“، ”ملك الموت لا يتكلم العربية“، ”مجرد رسالة من عجوز“، ”صرخة طينية“، ”اشهار جوع“، ”اتصال مائي“، ”فلس... طين“، ”ورد وماء“، ”الوسادة البيضاء“، ”اسمي وأسماؤهم“، ”تقمص“، ”الحب يجب ما قبله“، ”أمي تلعن النجوم“، ”كوري في تاروت“، ”آخرون كانوا هنا“، ”يأكلون الهواء“، ”ترانيم مواطن واقف“.
استخدم السنونة كل الأساليب الفنية التي يمكن أن تستفيد منه القصة أو تسهم في إيصال رسالتها، لأن القصة القصيرة ناشطة في الإفادة من مسيرة الأجناس الأدبية كافة. خاصة وأن القصة القصيرة في السعودية تحديدا تعبر من خلال تكنيكها وبناءاتها الفنية عن إخلاصها الشديد لعنصر الحكاية والتكتيك السردي، وفي انفتاحها المفصلي المتواصل على التجديد الفني المنفتح بدوره على روح القص، والذي ينأى بنفسه عن الابتذال اللغوي والحشو الحكائي الذي لا طائل من ورائهما، وكسر النمطية والتمرد على الأطر التقليدية، فضلًا عن تناولها وبرؤية عصرية لموضوعات موغلة في المحلية حياتية ومفصلية واجتماعية من صلب الواقع السعودي كما يقول الناقدُ السوري عمران عز الدين.
من هنا ندرك حجم الشغل الكبير الذي بذله السنونة على اشتغالاته القصصية في مجموعاته المختلفة والتي آخرها أقنعة من لحم"، حيث استطاع أن ينفذ من الرقابة ومقصاتها المختلفة بسهولة وصولا إلى ما نحن عليه من رمزية عالية وفنية أسهمت في خلق واقع مواز يشبه الأصل، طبق الأصل، ولكن بحكاية أخرى أقرب للوجع والحقيقة وبعيدا عن الوعظ أو الوقوع في فخ الخطابة وشرك المباشرة.