آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 2:13 م

مباحث في فن الزهيري.. الملا جادر الزهيري أنموذجًا

يوسف آل ابريه

مباحث في فن الزهيريتتابع الدراسات والبحوث حول فنّ «الموّال - الزهيري»، وكلّ باحث يحاول جاهدًا تقديم ما لديه من معلومات؛ علّه يضيف شيئاً حول هذا الفن الشعبي القديم المتجدد.

ولعلّ من أخطر الكتب التي تناولته وأعمقها هو كتاب «الموّال - الزهيري» والذي هو مجلد ضخم يندرج تحت موسوعة دائرة المعارف الحسبنية للعلامة المحقق محمد صادق الكرباسي، والمطبوع سنة «1422 هـ / 2001م»، ومن يجيل النظر والتأمل فيه فسيجد ما يدهشه ويذهله من قوّة الطرح وروعته وبيانه.

وكنت أقول في نفسي: لن يأتي كاتب بعد الكرباسي في هذا الفن فيضيف شيئاً.

ولعلّ ما طرحه الدكتور خير الله سعيد في كتابه «دراسات في الموال العراقي» هو رافد لما كتبه الكرباسي، وتأثر واضح بمنهجه في البحث، ولكنه لم يأتِ لنا بأمر مبهر في دراسته، التي صاغها بأسلوب أكاديمي راقٍ متقن.

وأظنّ أن الكثير سيكونون حذرين بعد كتاب الكرباسي، عند تناول هذا الفن، ولن يجرؤ أحد على خوضه ما لم يكن سبّاحًا ماهرًا. غير أن كتاب الأستاذ والباحث العراقي محمد الخالدي «مباحث في فن الزهيري» يعدّ فتحًا كبيرًا، وإبداعًا جديدًا في هذا الفن.

الخالدي الذي تجاوز الكرباسي وأضاف الكثير من المعلومات سواء بالإضافة أو الحذف.

الخالدي الذي تدارك ما فاته الكرباسي في بحثه العميق، وهذا إن دلّ فإنما يدل على بُعد النظر ودقة التمحيص ونفاذ البصيرة، فكان كتابه على صغر حجمه كبيرًا بما حواه وضمّه، فكتابه جاء في «162» صفحة من القطع المتوسط، تطرّق فيه لستة عشر مبحثًا، منها: تعريف بالمواليا، وما صلة المواليا بالموال؟، ولم سمّي هذا الفن بالمواليا؟، وفي أي عصر ظهر المواليا؟، وما علاقته بالغناء؟

ورأيناه في كل مبحث يجول ويصول، متّبعًا في ذلك «المنهج التحليلي النقدي»، فيقول في مقدمة كتابه بأن شكوكًا كثيرة راودته حول صحة ما جاء في المصادر، وأنها لم تبن على رؤية بحثية منهجية أصيلة. لذا قرر بعد قراءته وعكوفه على جلّ المصادر حول فن الموال أن يشطب كل المعلومات التي كان يعتقد بصحتها ويبدأ من جديد، ليصل إلى مبتغاه وهدفه المنشود.

كتب الخالدي كتابه «مباحث في فن الزهيري» عام 1337 هـ / 2016 م، ولأن الكتاب مليء بالإبداع والروائع فقد نفذت طبعته الأولى، وقد هيأ الله تعالى للطبعة الثانية أن ترى النور أيضا.

سيبقى هذا الكتاب من أفضل ما كتب حول فن الزهيري، وسيكون الرقم المميز والصعب، وسيظل أحد المصادر الرئيسة لكل باحث حول هذا الفن.

ولإعطاء إضاءة من إضاءات هذا الكتاب سأورد مبحثًا واحدًا من مباحثه الرائعة وعلى غراره فقس بقية المباحث. والمبحث هو الخامس عشر بعنوان «الملا جادر الزهيري».

استطاع الخالدي بفطنته أن يصل إلى وهمية هذه الشخصية، وأن مخترعها هو «عبد الكريم العلاف» فهو أوّل من جاء بذكر هذه الشخصية في كتابه «الموّال البغدادي» والمطبوع عام 1383 للهجرة، عندما نسب فن الزهيري إلى الملا جادر الزهيري، ولكي يوهم القرّاء فقد تعكّز كما يقول الخالدي على شخصية وهمية أخرى كراوية له تسند كلامه تدعى ملا رؤوف الشيخ نصر. وهكذا استطاع العلاف أن يمرر كذبته ويتلقّفها الباحثون المقلدون بعده كالمسلمات دونما تمحيص وتدقيق، وظلت تتردد إلى يومنا هذا.

وقدم الخالدي عدة تساؤلات واستنتاجات لتفنيد هذه الفرية باقتدار الخبير المدقق.

وخلاصة ما قاله:

وجود أشخاص قالوا الموال «الزهيري» قبل هذه الشخصية المنحولة كالمرحوم علي باشا يحيى زهير، والمرحوم عبد الرزاق الزهير، وللأمانة فإن هذا الرأي ذكره في الأصل عبد العزيز الدويش في كتابه «ديوان الزهيري».

والغريب أن العلاف عندما ذكر ملا جادر الزهيري وصفه بأنه فارس مغوار في نظم الموال. فإذا كان كذلك كما يقول باحثنا الخالدي فلماذا لم نعثر إلا على موّال واحد له؟ ولماذا لم يدوّن لنا العلاف بعضا من مواويله ليثبت فروسيته في نظم الموال؟.

كل ما نقله عنه هذا الموال:

معادن الود تظهر من معاديني
وحقوق لصحاب أوفيها معاديني
والصاحب اللي قرن دينه مع ديني
من غيمة الريب جوّي لم يزل صاحبي
واللي شرب كاس خمر امودّتي صاحبي
أكره صحيب الذي يحجب قفا صاحبي
واللي يعادي صحيبي هو معاديني

وهناك موّال آخر يتنازع نسبته شاعران غيره.

ثم تتبع الخالدي بعض الذين جاؤوا بعد العلاف، وأضافوا من جيب الصفحة الأدهى والأمر، فهذا هاشم محمد رجب يقول في كتابه: «المقام العراقي» متحدثًا عن الملا جادر الزهيري: والزهيري نسبة إلى الملا جادر الزهيري، لأنه كان كثير النظم فيه، ثم يتبعه صاحب كتاب «معرفة أوزان الشعر الشعبي» فيقول: «إنه نظم في الموال الزهيري أكثر من غيره وأجاد في نظمه»، وأما علي الخاقاني - وهو المحقق - فلم يكلف نفسه عناء البحث فقال في كتابه «فنون الأدب الشعبي»: وقد اصطلح أهل بغداد ومدن شمال العراق في تسمية الموّال بالزهيري نسبة إلى رجل اشتهر في بغداد يحسن نظمه وغناءه، يسمى ملا جادر الزهيري.

والأقرب أن الخاقاني اقتبس رأي العلاف وأضاف للملا جادر الزهيري موهبة الغناء ولو كان الملا جادر شخصية واقعية ولها ارتباط بالغناء لما غفل عنها في ذلك الوقت الشيخ جلال الحنفي في كتابه «المغنون البغداديون والمقام العراقي» وهو يؤرخ لكل المغنين البغدادين.

وللأمانة العلمية لابد من الإشارة إلى أن المحقق الكرباسي قد رفض نسبة الزهيري إلى الملا جادر الزهيري لعدم وجود الدليل المقنع لديه، ولكنه لم يصل إلى وهمية الشخصية، بل مال إلى احتمال أن الملا جادر قد قام بتطوير الزهيري ونشره.

وفي نهاية المبحث تأسّف الخالدي من مسايرة الباحثين في ميدان الشعر الشعبي لمن سبقهم وما ذاك إلا لأنهم مقلدون ولم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث والتقصي.

وفي الحقيقة كنت أتعجب من براعة العلاف في خلق هذه الشخصية وتمريرها بشكل رهيب، ولعل عجبي الأكثر هو من براعة الخالدي في كشف هذه الفرية بعد هذه السنوات الطوال!.

هذا نموذج لمبحث واحد من مباحث فن الزهيري، وما بقية المباحث إلا كضوئه وجماله.