آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الاستقرار الأسري

جهاد هاشم الهاشم

من المعلوم أن القرآن الكريم ركز على جميع مناحي الحياة، وهو المنهج الذي لا ينحرف عنه المسلمون في كافة المسارات المختلفة، وهو منبع التشريع الرباني لبني البشر قاطبة بدءا بشؤون الفرد منذ تكوينه وانتهاء برحيله، وكذلك شؤون المجتمع كله في نظامه وعلاقاته وحقوقه وواجباته العامة وحقوق أفراده. كل ذلك وفق منهج حكيم دقيق رعاه الخالق سبحانه وتعالى وهو الأعلم بمصلحة هذا الإنسان، الخبير بما في نفسه وطبيعة ميوله وهواه. قال تعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك الآية 5].

وكذلك الأمن الاجتماعي لا يقل أهمية عن بقية الأولويات الضرورية والملحة لاستمرار الحياة بصورتها الهادئة الكريمة، فهو لاشك ضروري وأحد أسباب الرخاء الحقيقي.

فحين تكون الأسرة لحمة مترابطة متحابة متفاهمة يعيش أفرادها بسلام في بيئة سليمة آمنة هنا يكون الإبداع والتألق والعطاء. أما حين يتهددها ويساورها القلق والمشاحنات فلن تكون مخرجاتها إلا سالبة تنعكس على بقية أفراد المجتمع وحين تفسد الأخلاق وتنتقل عدوى الفساد والفاحشة ستنتشر بين الأفراد وتؤدي إلى الانحلال والتدني الأخلاقي؛ ومن ثم سنقع فيما لا يحمد عقباه، ويتحول المجتمع إلى ساحة نزاع وصراع بدل من أن يكون مجتمع أمان واستقرار. ولن يكتب لأنواع الأمن الأخرى أن يتحقق بمعزل عن الأمن الاجتماعي. فالجريمة في غالبها ناتجة عن أفراد سيئي الصيت والسلوك ممن تأثروا ببيئة اجتماعية سلبية. ولو بحثنا في عمق شؤونهم لوجدنا أنهم مضطربون يعانون من مشكلات متنوعة. وكذلك الأمن الاقتصادي فهو مرتكز على القيم الأخلاقية قبل أن يكون مشكلة فقر وحاجة، فالعفة هي التي ساعدت على الرخاء الاقتصادي في كل زمن كان فيه المسلمون متفوقين. ولم يكن رخاء اقتصاديا فقط من دون بنية إيمانية وأخلاق عالية ووازع ذاتي بين أفراد المجتمع. حينها كان للتكافل الاجتماعي دور ريادي في قوة المجتمع وانطلاقته بطمأنينة نحو تأسيس معالم حضارية لم يتصورها أحد، وشاع الترابط المجتمعي بصورة تنافسية بين الأفراد. ولأهمية هذا الموضوع عُقد ما شاء الله من الندوات والمحاضرات بالتعاون مع جمعيتنا الرائدة جمعية سيهات للخدمات الاجتماعية ووزارة الشؤون الاجتماعية. وألقيت محاضرات متنوعة لعلماء أجلاء من عدة مناطق من قطيفنا المعطاء. والسياق هو الأسرة استقرارها وأمنها ومواجهة التحديات وبناء القيم. ومؤسسة واحدة لا يمكنها القيام بالإصلاح سواء الأسرة أو الإعلام، وكذلك المدرسة أو الجامعة بل لا بد من هذه مجتمعة في بيئة متعاونة متكاتفة وكذا النظام الاجتماعي فلا يمكن له وحده أن يكفل الاستقرار والأمن. إذا لا بد من النظام الاقتصادي والتربوي وغيرهما وهكذا الإسلام الذي أمرنا الله بالدخول فيه كله قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. سورة البقرة الآية ﴿108_109.

أي في الإسلام كله. وهذا رد على الذين يمزّقون الدين ويفرّقون بين أجزائه كما على الذين يقزمون الدين فيلغونه من حياتهم ويهربون إلى المناهج البشرية الوضعية الناقصة ظنا منهم أنها ملائمة لطبيعة الزمان والمكان بينما التشريع الديني في نظرهم متخلف رجعي.

لقد زادت نسبة الطلاق للأسف الشديد إلى درجة مخيفة باتت تهدد شريحة من مجتمعاتنا ليست بالقليل. وكنا نتغنى بالاستقرار إلى عهد قريب ونضرب الأمثلة السلبية تجاه المجتمع الغربي بأن نصف حالات الزواج هناك تنتهي بالطلاق وإذاً بنا منذ عقد من الزمن تقريبا نقترب منهم وهنا في البلاد العربية ازدادت النسبة بشكل ملحوظ. وهي بين الصغيرات، وقد يكون سوء اختيار الزوج أو الزوجة هو السبب، وقد يكون العامل الأخلاقي أو الوضع الاقتصادي أو تردي المستوى التعليمي أو نقص الوازع الديني وغيره. ونحن ما عدنا نأمن على أولادنا من لحظة خروجهم من المنزل فلا نعلم عن البيئة التعليمية في المدرسة أو الجامعة. وخصوصا مع انتشار الفضاء الإعلامي الواسع من خلال الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي أو الهاتف الخلوي فقد تعذر سيطرة الوالدين على الأبناء، ولن يكون ذلك إلا بتكامل أدوار هذه المؤسسات كلها، وأهمها بناء الوازع الذاتي والرقابة الشخصية واستشعار معية الله تعالى وأننا مراقبون بعينه التي لا تنام.

وهناك أكثر من جانب فيه خلل ضمن المنظومة الاجتماعية؛ فهناك عزاب وعازبات بنسبة مرتفعة ولها أسبابها المتنوعة، ونسبة انفصال عالية للأسف - كما أشرنا - وهي حالة تفضي إلى شر عظيم إن غاب تقوى الله عز وجل. وهناك عنف أسري متزايد امتدت آثاره لينتقل إلى عنف مجتمعي وظلم في الحقوق بين أفراد الأسرة الواحدة، فضلا عن حقوقهم المجتمعية. وكل واحدة من هذه المشكلات وغيرها بحاجة إلى ورش عمل بل مؤتمرات مكثفة وبحوث علمية؛ لنقف على الأسباب الحقيقية وراءها. ولا نريد أن يفهم فيما بين السطور أننا معصومون أو نريد مجتمعا مثاليا. ولكننا في الوقت نفسه وكذلك الخيرين المخلصين لا يريدون المجتمع مهرولا وراء شهواته وميوله ألا أخلاقية المنافية للعقل والدين والمنطق. ونوجه رجاءنا لأصحاب الفكر الغيورين من أولياء الأمور وكذلك المعلمين والمعلمات والتربويين والتربويات بأن يولوا الأجيال الصاعدة كل اهتمام.

فهل أمننا الأسري والمجتمعي ونهضتنا واستعادة كرامتنا والإعداد لمواجهة رغباتنا الجامحة المتربصة بنا يكون من خلال الانفلات الديني والأخلاقي وتفكيك الأسر وتشجيع اللامبالاة بدريعة الحرية ونيل الحقوق؟

إذاً لا بد من إدراك الخلل قبل فوات الأوان وقبل اتساع الغزو الفكري واستعمار العقول أكثر مما هو عليه الحال لكي لا نصل بعدها لفقد ما يمكن إنقاذه تجاه أبنائنا وبناتنا، وخصوصا أن الخلل الاجتماعي عاصف مدمر مؤذ متشعب ولا بد من محاصرته وعلاجه وهذه مسؤولية الجميع. وآثارها لن يسلم منها أحد فلا أجمل وأفضل وأروع من عفاف النفس والبعد عن المعاصي والمنكرات، ولذا أولى الإسلام الأسرة أهمية بالغة باعتبارها اللبنة الأساس في بناء الإنسان الراشد والمجتمع الصالح، فهي المأوى الهادئ الذي هيأه الله سبحانه وتعالى للبشر يستقر فيه ويسكن إليه، فكلما كانت الأسرة مستقرة متماسكة وأعضاؤها متحابين صالحين يكون المجتمع قويا متآخيا ودودا لبعضه البعض. لذلك اعتنى الشارع المقدس بها منذ اللحظات الأولى بدءا من التفكير في تكوينها حيث أمر بإقامتها على الأسس المتينة التي تضمن لها السعادة والسكينة، وليكون هذا السكن بحق محضنا رفيعا لتربية نشء يحمل كل الأعباء قادرا على تحمل كل الصعاب لنصل للمبتغى المراد الوصول إليه ويضاء به نور الظلمات.