في التصحر والوحدة الثقافية العربية
منذ السبعينات من القرن المنصرم، كتب الكثير عن الصحارى العربية كعناصر كابحة لقيام الوحدة الثقافية العربية، وكان الأهم بين تلك الكتابات كتاب «مغزى الدولة القطرية» للدكتور محمد جابر الأنصاري الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية. إن تلك الصحارى تسببت من وجهة نظر هؤلاء الباحثين، في إعاقة الوحدة الثقافية العربية، وبالتالي في الحيلولة دون إمكانية نجاح التجارب الوحدوية.
ومع التقدير لتلك الجهود لكن قراءة التاريخ وقراءة جغرافية العالم القديم والمعاصر لا تسند هذا السجال، فهناك أمم عريقة أنجزت وحدتها، ولم يحل وجود الصحارى دون تحقيق ذلك، فعلى سبيل المثال، الجزء الغربي للولايات المتحدة، باستثناء الولايات المشاطئة للساحل الغربي، من نيفادا إلى يوتا وإريزون، جميعها أراض صحراوية، وبمساحة تتجاوز مساحة الصحارى العربية بعدة أضعاف، لم تحل دون تحقيق الاتحاد الأمريكي، ومثل هذا القول، ينسحب على صحراء التبت، في الصين.
لم يحل وجود الصحارى دون اتجاه العرب نحو التخوم الشمالية من الجزيرة العربية في موجات متعاقبة إلى العراق وبلاد الشام ووادي النيل قبل استهلال الفتح، وقد سهل ذلك الوجود على المسلمين ولوج تلك الأقطار، وجعلها بعد فتحها جزءاً من الحواضر العربية.
وحين انطلقت جيوش المسلمين من يثرب لعموم مناطق الجزيرة العربية، كانت على علم بتضاريسها ووديانها وجبالها، وعلى معرفة بطرقها، حيث كان أهل مكة قد استخدموا تلك المناطق وطرقها محطات وممرات لعبور قوافل تجارتهم من قبل، بل كانوا على معرفة بقبائل الجزيرة وعشائرها وأنسابها ورموزها الاجتماعية، وقد ساعدتهم تلك المعرفة في عقد التحالفات وتوقيع معاهدات الصلح، وإقامة العلائق مع القبائل، مما سهل على الفاتحين تنفيذ مهامهم.
إن ذلك يفسر كيف تمكن جيش الفتح بقيادة خالد بن الوليد في فترة لم تتجاوز عامين من توحيد عموم مناطق الجزيرة العربية. وهي فترة قياسية قصيرة شهدت كراً وفراً ووقفات تعبوية، وانتقال عبر الصحراء، في مواسم قاسية من منطقة إلى أخرى، من نجد إلى اليمن وعمان فالبحرين وشمال الجزيرة.. إلى بلاد الشام والعراق.
لقد كان تكلل عملية الفتح بالانتصارات في تلك الظروف، عملا مستحيلا، لو كانت هناك قطيعة في الثقافة، ويوضح ذلك التواصل أسباب التماهي السريع والواسع للبلدان التي شملها الفتح مع التفاعلات الفكرية والمذهبية والفقهية، وقبول العرب على اختلاف مناطق وجودهم نتاج مدارس الكوفة والبصرة وبغداد والقيروان، وانتشار المذاهب الفقهية التي تمركزت في بغداد والحجاز من حنفية وشافعية وحنبلية ومالكية وشيعية في أرجاء المدن العربية، لتنتقل في ما بعد إلى أرجاء الدولة العربية الإسلامية حتى الأندلس.
وبالمثل انتشرت بسرعة، المذاهب الفكرية والفلسفية التي تكونت في ظل الحضارة العربية، وكانت تلك المذاهب انعكاساً موضوعيا للصراعات السياسية والاجتماعية التي شهدتها دولة الخلافة في العصرين الأموي والعباسي كمدارس المرجئة والأشاعرة والجبرية والقدرية، وقد وجدت من يتبناها ويدافع عنها على امتداد الساحة العربية والإسلامية، فمدرسة المعتزلة خرجت من البصرة، لكن منهجها انتقل وتطور في بقاع أخرى من ساحة الحضارة العربية، وكانت نتيجة ذلك تراثاً خالداً متنوعاً مثل مختلف التيارات الفكرية والفلسفية على امتداد ساحة حضارتها.
وصدر في مرحلة لاحقة، كتاب «تهافت الفلاسفة» لأبي حامد الغزالي في بلاد فارس، إلى الشرق. ورد عليه أبو الوليد محمد بن رشد المولود في قرطبة في الأندلس، أقصى ما وصلته حضارة العرب غرباً، وكان أن صدر في ما بعد كتاب المقدمة لعبد الرحمن بن خلدون من تونس، وتلك كانت قفزة نوعية في تأسيس علم الاجتماع.
وعلى الصعيد الأدبي، كان هناك تواصل عبّر عنه الشعر العربي في حلقات مستمرة متصلة منذ المعلقات قبل الإسلام إلى عمر بن أبي ربيعة فجرير والفرزدق ودعبل الخزاعي وأبي نواس والبحتري وأبي تمام إلى الأندلس حيث ابن زيدون وابن هاني والموشحات الأندلسية، وقد نقلنا ذلك الأدب الرفيع بإيقاعات جميلة من الحجاز إلى الشام والعراق ومصر والأندلس في رحلات بإيقاعات جميلة، ونبض مثل التاريخ في حركته وتطوره.
ومع أن دولة الخلافة تفككت لاحقاً، وحلت محلها إمارات وممالك حمدانية وسلجوقية ومملوكية، فإن فكرة أمة واحدة بقيت حلما يراود الكثير من العرب، واستمرت الهوية تحمل ثنائية ممزقة بين انتماء إلى كيان خاص، وانتماء معنوي آخر إلى أمة، ومع كل حالة ضعف عاشتها تلك الكيانات، كان الشعور بالانتماء إلى الأمة يطغى ويتعزز، لكن الوحدة السياسية ظلت ولا تزال رهناً بقوة العرب وتصميمهم.