هل الضربة التي لا تقتلك تقويك؟ كيف، ومتى، ولماذا؟ «8»
نواصل بحثنا عن عوامل النمو التالي للصدمة ونضيف للمفهومين اللذين قدمناهما، الاجترار المتداول وصناعة المعنى، في المقال السابق عاملًا آخر يتعلق بموضوع مركز التحكم في تصرفات وسلوكيات الشخص. وسنحاول الإجابة عن السؤال التالي: هل مركز التحكم في التفكير والعواطف وما ينتج عنهما من سلوك نابع من داخل الإنسان «مركز التحكم الداخلي Internal Locus of Control» أو مركز التحكم خارجي «External Locus of Control» وهو مرهون بالمحيط الخارجي للإنسان. وسنتعرض لأهمية نظرية التحكم من وجهة نظر علم النفس وسنستخدمها كخلفية لفهم هذا العامل في عملية النمو التالي للصدمة.
نظرية مركز التحكم وضعها جوليان روتر Julian Rotter في خمسينيات القرن الماضي [1] وتركز على تصورات وتفسيرات الإنسان لمسببات الأحداث التي تحصل له ومن حوله. وكان هدف روتور من اختيار مصطلح ”مركز التحكم“ هو تجسير العلاقة بين علم النفس السلوكي وعلم النفس الإدراكي واللذان كانا متابينين لفترة طويلة. الجانب السلوكي في النظرية هو أن السلوك مرهون بما يعقبه من ثواب / مكافأة «او عقاب»، وأما الجانب الإدراكي من النظرية هو أن الشروط الحاكمة للثواب والعقاب تؤدي إلى تكوّن نظرة أو اعتقاد بشأن مسببات السلوك والتصرفات. وهذه التصورات والمعتقدات هي التي تتحكم في الاتجاهات والمواقف التي يتبناها الشخص. ووجهة النظر هذه تتطابق مع نظرة عالم النفس الشهير فيليب زيمباردو Zimbardo [2] ، الذي أوضح معنى ونوعي مركز التحكم الذي وضعه في الأساس جوليان روتر في 1966. يقول زيمباردو بأن مركز التحكم يتعلق باعتقاد الشخص فيما لو كان هناك ارتباط بين نتائج السلوك والتصرفات وبين أشياء نحن نعملها أو في دائرة تحكمنا «التحكم الداخلي» أو ناتجة عن أشياء خارجة عن دائرة تحكمنا «التحكم الخارجي».
الجدير بالذكر أن نظرية التحكم تُعرّف أيضًا بمصطلحات أخرى: الإرادة الذاتية، والتحكم الذاتي، والقوة / السلطة Self-agency الذاتية.
بحسب النظرية، مركز التحكم هو طيف ممتد بين قطبي التحكم الداخلي والتحكم الخارجي وكل له مواصفاته. الشخص الذي ترجح لديه كفة التحكم الداخلي بالسلوك يعتقد بأن محاولاته وقراراته الشخصية هي التي توجه سلوكه، بينما الشخص الذي يؤثر فيه التحكم الخارجي، كالقدر والحظ والظروف الخارجية الأخرى، يعتقد بأن سلوكه هو الذي يوجهه ويتحكم فيه. وبناءً على هذا التوصيف، تكوّن الصحة النفسية أعلى وأفضل لدى الشخص الذي يشعر بقدرته على التحكم في أشياء باستطاعته التأثير فيها وتوجيهها كيف يشاء. فكلما تحلى الإنسان بالقدرة على التحكم الذاتي كلما كان أكثر قدرة على مواجهة تحديات ومصاعب وصدمات الحياة.
بعد أن تعرفنا على خلفية مصطلح ونظرية مركز التحكم أو التحكم الذاتي، دعنا نتحدث عن علاقته بالنمو التالي للصدمة، وبالتحديد عن طبيعة التحكم المسبب للنمو بعد الصدمة. الارتباط بين مركز التحكم والنمو التالي للصدمة وثيق جدا ويحدد طبيعة التحكم «داخلي أو خارجي» ومدى قوة تأثيره التي يعتقد بها الشخص المصاب حتى يوظفها في مواجهة التحديات والصدمات قبل أن يقع فريسة للظروف. بكلمة أخرى، التحكم هو قرار إمّا بالإقدام «تحكم داخلي» أو بالأحجام «تحكم خارجي».
طبعًا، قدرة التحكم تخضع لمعادلة لا إفراط ولا تفريط، أي القدرة المعقولة وغير المبالغ فيها. أمّا من يعتقد بأن ليس له قدرة على التأثير في مجرى الأحداث ونتائجها، فهو بالفعل يستخف بقدرته الحقيقية على تخطي الجوانب السلبية للصدمة ويخفق في اكتشاف مخزون قدراته النفسية الكامنة.
بما أن عوامل النمو لا تفسر بمفردها عملية النمو التالي للصدمة المعقدة، لا بد لنا من النظر إلى التشابك والترابط بين العوامل والتي تؤدي مجتمعة إلى التحول من حالة الضحية إلى حالة الانتصار والغلبة. وسنتحدث في المقال القادم - إن شاء الله - عن النجاعة الذاتية كعامل آخر للنمو التالي للصدمة.