ابن سينا وتهافت نقد الجابري
قدم الدكتور محمد عابد الجابري «1935-2010م» في كتابه: «نحن والتراث.. قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي» الصادر سنة 1980م، صورة محبطة وصادمة للغاية عن الفيلسوف الإسلامي الشهير ابن سينا «370-428 هـ /980-1037م»، قالبا منزلته الفكرية الرفيعة هابطا بها إلى الحضيض، وواضعا إرثه العلمي والفلسفي الواسع والكبير في خانة متردية، كاشفا - حسب قوله - عن الوجه الآخر المخفي له، مطلقا عليه أحكاما وتوصيفات تسلب منه كل مزاياه ومناقبه، ومصطفا إلى جانب أسلافه المغاربة السابقين، مصورا أن سمعة ابن سينا في أوساطهم لم تكن على ما يرام، فقد تجاهله ابن ماجة «ت: 533-1138م»، ونقده ابن رشد «520-595 هـ /1126-1198م»، وضعفه ابن سبعين «614-669 هـ ».
في هذا الموقف صور الجابري متجنيا أن ابن سينا مثل أكبر مكرس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام، إذ جعل من التنجيم والسحر والعزائم والطلسمات والرقى والتعلق بالموتى وغير ذلك من مظاهر اللامعقول، علوما تجد مكانتها الطبيعية في منظومته العلمية الفلسفية التي طلاها بطلاء أرسطو طاليسي كاذب، ومعتبرا أن فلسفته الشرقية قتلت العقل والمنطق في الوعي العربي لقرون طويلة، ومن ثم فهو المدشن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط في تاريخ الثقافة الإسلامية.
من وجه آخر، فارق الجابري وفاضل بين ابن سينا وابن رشد، متخليا عن الأول ومتحيزا إلى الثاني، فاصلا بينهما وقاطعا، معتقدا أن في تراثنا الثقافي روحين ونظامين فكريين هما: الروح السينوية والروح الرشدية، رافعا الانفصال بينهما إلى درجة ما يسميه القطيعة الإيبستيمولوجية، مشددا على هذه القطيعة، مقدرا أنها تمس في آن واحد المنهج والمفاهيم والإشكالية.
أمام هذا الموقف فحصا وتبصرا، يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولا: من ناحية النقد، أظن أن الجابري قد تجاوز منهج النقد وحدوده إلى إصدار أحكام اتسمت بالتعسف والشدّة والغرابة، خرج فيها من كونه عالما متثبتا في أقواله، ومتنزها في أحكامه، ومتلطفا في نقده، ومتحريا العدل والحق والإنصاف، إلى كونه قاضيا معنيا بالمحاكمة وإصدار الأحكام تنفيذا للقانون، وتطبيقا لنظام العقوبات، مصدرا حكما بالإنهاء المعنوي لابن سينا، وإفناء سيرته، وإماتة إرثه العلمي والفلسفي، والتوقف عن التعامل معه، بوصفه ظلاميا وخرافيا وتخريبيا، ومدشنا لعصر الجمود والتراجع والانحطاط.
هذا الموقف المثير جاء من الجابري وكان صادما، ويقع على النقيض تماما من السيرة العلمية والفلسفية المتوارثة لابن سينا، وبخلاف الصورة اللامعة والمتفوقة المتشكلة عنه في الأدبيات العربية والإسلامية وحتى الغربية قديما وحديثا، التي طالما بالغت في تبجيله وتمجيده، مقرة له بنبوغه وعبقريته وتفوقه، فقد عده مؤرخ تاريخ العلم جورج سارتون «1884-1956م» أنه من أعظم علماء الإسلام ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين، ومثل هذه الانطباعات والتبجيلات عن ابن سينا كثيرة ومتواترة.
لا شك أن الجابري ليس بحاجة لمن يذكره بهذه السيرة المتفوقة لابن سينا، أو لمن يعرفه بمثل هذه الانطباعات التبجيلية، فهو على دراية بها، ولعله تقصد أن يتخلص من هيبتها ورهبتها، ويترفع عن ضغطها وتأثيرها، ويظهر تحرره منها واستقلاليته عنها، لكنه مع ذلك لم يكن موفقا في نقده وطريقته في النقد، فما قدمه كان تهجما وتحاملا أكثر من كونه نقدا، ويعد مثالا سيئا في السيرة النقدية للجابري.
ثانيا: من ناحية المعرفة، فارق الجابري وفاضل بين ابن رشد وابن سينا، متصلا بالأول ومنفصلا عن الثاني، مدافعا عن الأول ومتهجما على الثاني، فاصلا بينهما وقاطعا على مستوى المنهج والمفاهيم والإشكالية.
أثار هذا الموقف من الجابري حفيظة النقاد والباحثين، الذين ظلوا مناقشين له ومجادلين، مشككين فيه ومخالفين، متعجبين منه ومندهشين، خصوصا عندما رفع الجابري القطيعة بينهما إلى درجة القطيعة المعرفية، المفهوم الذي لعله ضلّل الجابري وجعل نقده متهافتا، لأن مثل هذه القطيعة قطعا وجزما لا توجد بين ابن رشد وابن سينا، هناك تخالف بينهما وتعارض في بعض الآراء ووجهات النظر، لكنها لا تصل قطعا إلى درجة القطيعة المعرفية، فهما يشتركان في المسالك الدينية والفلسفية والعلمية، وينتميان إلى الحضارة الإسلامية، ويتأطران بمنظومة الثقافة الإسلامية.
ليس هذا فحسب، بل بإمكاننا أن نقلب الصورة بينهما، بطريقة نرفع فيها وضعية ابن سينا ونميزها عاليا، ونهبط بوضعية ابن رشد، وذلك حين الكشف عن طبيعة العلاقة المتشكلة لديهما مع أرسطو «384-322ق. م» بصورة خاصة، ومع علوم أهل اليونان بصورة عامة، فهناك مفارقة فارقة بين طريقة ابن سينا الذي أظهر في هذه العلاقة ذاتيته ونديته وكبرياءه، مقدما صورة عن الثقافة العربية الإسلامية اتسمت بالتمايز والتفوق والتسامي.
بخلاف ابن رشد الذي أظهر في هذه العلاقة تبعية وتقليدا، مكرسا سلطة أرسطو الفكرية والفلسفية في ديار الإسلام، معظما منزلته، مطلقا عليه صفة الإنسان الكامل، مقدما نفسه شارحا وفيا له، متفننا في شرح تأليفاته وتوضيح غموض ألفاظه وعباراته، وبات معروفا بالشارح الأكبر أو الشارح الأعظم، وعدت هذه من أبرز ألقابه شهرة شرقا وغربا.
ومن شدة تبعية ابن رشد أنه لم يكن يتقبل من أحد في ديار الإسلام نقد أرسطو، وظل مدافعا عنه ومنافحا، وكأنه فوق النقد بعد أن وجد فيه - حسب قول المستشرق الهولندي دي بور - أسمى صورة تمثل فيها العقل الإنساني، مكتسبا صفة المعلم الأول، أو كأنه لا يوجد أحد قادر في نظره على نقده، وظل يصور من يختلف معه على أنه لا يفهم أرسطو أو لا يفهمه كاملا أو لا يفهمه على الوجه الصحيح، معتقدا في نفسه أنه بلغ أعلى رتبة في فهم أرسطو، ولا يكاد يجاريه أحد في هذا الشأن.
فتحت هذه الملاحظة باب النقد الواسع والشديد على ابن رشد، ويعد الدكتور طه عبدالرحمن من أشد الناقدين المعاصرين له، فقد اعتبره في كتابه: «حوارات من أجل المستقبل» مقلدا لأرسطو، بل ليس في فلاسفة الإسلام من هو أشد منه تقليدا لفلاسفة اليونان، وأنه من وضع أصول التقليد في الفلسفة، وأصبح أبرز مشرع له، ولم يضاهه في ذلك لا سابق ولا لاحق، متعجبا كيف يدعو ابن رشد إلى تقليد من يعود فكره إلى ذلك التاريخ السحيق، إذ تفصلنا عن أرسطو خمسة عشر قرنا، وكأن الفترة الحضارية التي عاشها المسلمون لم تكن موجودة قط، أو كأن عطاءها الفلسفي ليس له اعتبار كليا، وهذا في تقدير طه عبدالرحمن ظلم وتضليل.
بخلاف هذه الصورة، جاءت صورة ابن سينا الذي رأى فيه العالم المصري الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى «1317-1383 هـ /1859-1963م» أنه عمل على التحرر من سلطان فلاسفة اليونان القدامى، وبخاصة أفلاطون وأرسطو، وحاول أن يكوّن لنفسه فلسفة مستقلة.
وتأكيدا لهذا المعنى من الجابري نفسه، إذ كان يرى أن ابن سينا وخلافا للكندي والرازي والفارابي كانت الحاجة لدية إلى التخلص من أرسطو أقوى من الحاجة إلى توظيفه عقلانيا، مرتبا على ذلك نتيجة غريبة تدينه وتخطئ تحليلاته وتربك موقفه، حين اعتبر أن ابن سينا لأنه أراد التخلص من أرسطو، أصبح في نظره المدشن الفعلي لمرحلة أخرى في تطور الفكر الفلسفي في الإسلام، هي مرحلة التراجع والانحطاط.
هذا الموقف من الجابري يثير تعجبا حين ربط العقلانية بأرسطو، معتبرا أن من يرتبط بأرسطو يصبح عقلانيا برهانيا ومن يبتعد عنه يصبح لا عقلانيا ولا برهانيا، وبذلك أصبح ابن رشد عقلانيا وفي قمة العقلانية لأنه ارتبط بأرسطو وبات شارحا نجيبا له ومحسوبا على مذهبه.
في المقابل أصبح ابن سينا لا عقلاينا، بل وعمل - حسب قول الجابري - على تكريس لا عقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء عقلانية موهومة، مقررا على ضوء ذلك أن الضربة الحقيقية التي أصابت الفلسفة ومن ثم العقلانية في الإسلام، لم تكن تلك التي تعزى إلى أبي حامد الغزالي «450-505 هـ /1058-1111م» وكتابه: «تهافت الفلاسفة»، بل جاءت من ابن سينا.
يأتي هذا الموقف من الجابري وكأنه ينتمي عصرا وتاريخا إلى القرنين الرابع والخامس الهجريين، حين كان أرسطو في عز مجده وقوة هيبته ورهبته في ديار الإسلام، وكونه مدشنا - حسب تحليلات الجابري المطوّلة في كتابيه التكوين والبنية - نظام البرهان في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، متفارقا عن نظامي البيان والعرفان، مسجلا له امتياز تنصيب العقل في الإسلام. في حين أن النظرة إلى أرسطو قد تغيرت جذريا في الأزمنة الحديثة، ولم تعد النظرة إليه كما كانت في تلك الأزمنة القديمة.
وبخلاف موقف الجابري، فإننا اليوم نسجل لابن سينا موقفه ونشيد به، لأنه وقف في وجه أرسطو، وأسهم في حجب تأثيره الطاغي في ديار الإسلام، وكسر شوكته، وقدم نفسه ندا له، مبرزا تجاهه قوة وليس ضعفا، بل وأراد أن يكون بديلا عنه، متفاضلا عليه، مظهرا تفوق الثقافة العربية الإسلامية.
وتتأكد أهمية موقف ابن سينا وعظمته عند معرفة أن الفكر الأوروبي إنما ولج إلى الأزمنة الحديثة، وخاض غمار هذه التجربة الفكرية الرائدة، بعدما تمكن من إحداث قطيعة كبرى مع أرسطو ومنظومة الفكر اليوناني القديم، القطيعة التي مثلت حدثا تاريخيا انعطفت بالفكر الأوروبي ونقلته من وضعية العصور الوسطى الموصوفة عند الأوروبيين بعصور الظلام والانحطاط، إلى وضعية العصر الحديث الموصوف عندهم بعصر النهضة والتنوير، وعد الفيلسوف الفرنسي ديكارت «1596-1650م» الذي نهض بهذه الخطوة، مبجلا عند الأوروبيين موصوفا في أدبياتهم بأبي الفلسفة الحديثة، لأنه تمكن من إيقاف تمدد الفكر اليوناني والانعطاف عليه.
مثل هذه الخطوة كان بالإمكان حدوثها مبكرا في تاريخ الثفافة العربية الإسلامية مع ابن سينا، الذي كانت له خطوات جادة في هذا السبيل لكنها لم تتمم، ومن بعده جاء ابن رشد وانتكست هذه المسلكية، حيث أعاد لأرسطو سطوته وسلطانه في الثقافة العربية الإسلامية، مقدما دفاعا عنه، شارحا معظم تأليفاته، متعاملا معه بطريقة لم تحدث مع أحد من قبل، كما لو أنه نبي أو رسول، أو إمام من أئمة الحضارة الإسلامية.
ثالثا: من ناحية المنهج، تعمق ابن سينا في الفلسفة دراسة وتأليفا، وعده الباحثون والمؤرخون من أقوى العقول الفلسفية في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، ونال شهرة متفوقة في هذا الشأن شرقا وغربا. وقد اتخذ منه المستشرق الفرنسي جوستاف دوجا «1824-1894م» صاحب كتاب: «تاريخ الفلاسفة والمتكلمين المسلمين» الصادر سنة 1889م، برهانا لتخطئة أولئك المستشرقين القائلين إن الفلسفة العربية ليست إلا تقليدا للفلسفة اليونانية، ولم يكن لها أي نتاج خاص بها، معتبرا أن هذه الأحكام تذهب إلى حد الشطط، ومصدرها في رأيه سوء التحديد للفلسفة، والجهل بما عند العرب من مصنفات غير شروحهم لمؤلفات أرسطو، ثم ساق شاهدا على ذلك قائلا: «فهل يظن ظان أن عقلا كعقل ابن سينا لم ينتج في الفلسفة شيئا طريفا، وأنه لم يكن إلا مقلدا لليونان!».
ابن سينا الذي تعمق في الفلسفة إلى مستويات عليا ساميا، مع ذلك التفت إلى جانب الروح، معتنيا بالروحانيات، جامعا بين العقل والنفس، فلا هو من الفلاسفة العقليين الذين لا عناية لهم بالجانب النفسي والروحاني، ولا هو من الفلاسفة الروحانيين الذين لا عناية لهم بالجانب العقلي، والإنسان لا يتكامل بالجانب العقلي فحسب، ولا بالجانب النفسي فحسب، وإنما بالجمع بين الجانبين العقلي والنفسي.
وهذا ما لم يرض عنه الجابري، متخذا منه سببا لشن هجوم عنيف على ابن سينا، معتبرا أنه أكبر مكرس للفكر الغيبي والخرافي والظلامي، داعيا إلى عقلانية مجردة على صورة عقلانية أرسطو، التي لا أساس لها ولا تأسيس في الثقافة الإسلامية كون أن هذه الثقافة تجمع بين العقل والنفس ولا تفصل بينهما، فالعقل يزداد قوة بإشراقات النفس، والنفس تزداد قوة بإشراقات العقل.
وآخر ما نختم به، أن الجابري أراد أن يضع ابن سينا في صدام مع ابن رشد، فاصلا بينهما وقاطعا، وكان من الأولى الجمع بينهما، على طريقة الفارابي في الجمع بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، فكل واحد منهما - ابن سينا وابن رشد - له مكانته الرفيعة، وهما معا من مفاخر الثقافة الإسلامية، ومن رسل هذه الثقافة إلى العالم والإنسانية كافة.