نقد تحت المجهر!
قرأت مقالاً تحت عنوان ”مناقشة الشيخ المشاجرة لكتاب الشيخ حيدر حب الله - شمول الشريعة -“ والذي انتشر في بعض وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية، ووجدت فيه جملة من النقاط التي ضمنها صاحب المقالِ كإشكالات تَرِد على الشيخ المشاجرة في مناقشته لتلك الأطروحة، وبدا لي حين المقاربة بين الادعاءات المذكورة في المقال وبين ما تم طرحه من قِبل الشيخ، حالة تباين ملحوظ.
فأردت أن أسير بمعيّةِ قارئي الكريم لنأخذ جولة في أروقة الإشكالات المذكورة ونتلمَّس سوية حدود الحقيقة والإيهام، لنتعرف على نطاق الدائرة التي تقع فيها تلك الإشكالات وهل هي حقيقة تتماهى ومعنى الإشكال! أم أنها جملة تصورات وانطباعات تسربلت بجلباب التعاميم المفرطة وإصدار الأحكام المستعجلة.
ذكر صاحب المقال ما نصه: ”أتصور أن مناقشة الشيخ المشاجرة لم تتضمن أي ردٍّ حقيقي على أفكار كتاب الشيخ حب الله“ إلى أن قال: ”وربما يكون قد تشكل على إثر مناقشته انطباع لدى المستمعين بأن للشيخ حب الله موقف سلبي من الشريعة“.
وهنا نقف قليلاً مع النص المذكور لنتقدم بالسؤال التالي: ما هو الحد الفاصل بين الجواب الحقيقي من عدمه؟ إذا كان المناقش قد قدم النظرية بنحو تنسجم ومراد قائلها عرضًا وبيانًا دون زيادة أو نقيصة بحيث لم يطرأ عليها إطناب ولا إيجاز مخل! وهذا ما ظهر من الشيخ المشاجرة حينما أخذ بذكر المقدمات واحدة تلو الأخرى التي قال بها صحاب نظرية - عدم شمول الشريعة - وتدرج بالإجابة عليها.
فلم يضع الكاتب الكريم أيدينا على الموارد التي تجاوزها الشيخ المشاجرة - فظلم بها صاحب النظرية - على حدّ تعبيره. كما أن المعهود في الحقول المعرفية أنها دؤوبة بالنقض والبناء للنظريات العلمية المطروحة وهذا ما يشكل رافدًا للتدافع المعرفي الذي يسهم في نضج الآراء وتمحيصها، لتعزيز سليمها وتقويم سقيمها، فأي إيحاء أو انطباع سلبي قد شكله الشيخ المشاجرة لدى المستمعين في تناوله للنظرية ومعالجتها علميًا؟
ثم يذكر صاحب المقال ما نصه: ”يذكر الشيخ المشاجرة مثلاً في إشكاله الأول على أطروحة الشيخ حب الله، وبشكل غريب، وجود آيات قرآنية وروايات تؤكد مبدأ شمول الشريعة... إلى أن يقول“ وهذا غريب جدًا وكأن الشيخ حب الله لم يتعرض لهذه الروايات والآيات بشكل مفصل... "
ونعقب هنا: لم يتجاوز الشيخ المشاجرة الروايات المذكورة في هذا الشأن والتي قال بها صحاب النظرية، بل من إحدى الأدلة التي اتكأ عليها الشيخ المشاجرة في إثبات رؤيته على - شمولية الشريعة - هو ما أحصاه صاحب النظرية نفسه من الروايات، إذ قال الشيخ المشاجرة ما نصه ”لدينا 62 رواية حسب إحصاء الباحث نفسه تتحدث عن شمول الشريعة، منها 21 رواية صحيحة، و31 رواية تنص بشكل واضح على أنه ما من شيء إلاّ وفيه كتاب وسنة“ وهنا تكمن نقطة المفارقة بين الشيخ المشاجرة والشيخ حب الله في استظهار دلالة الروايات والآيات المذكورة وهل أنها تدل على شمول الشريعة أم لا، ومن البداهة بما كان أن الاختلاف في الاستظهار للدلالة لا يعتبر تجاوزًا أو تهميشًا لأدلة القائل بعدم شمول الشريعة، فشتان بين الأمرين!
كما أن كاتب المقال الكريم قال ما نصه: ”يشير الشيخ المشاجرة إلى“ دليل اللطف ”كدليل لشمول الشريعة... إلى أن قال: وكأن الذي يقدمه الشيخ حب الله من فهم حول حدود تدخل الشريعة في حياة الناس يقتضي انتفاء هذا اللطف، وهذا غير صحيح لأن الشيخ حب الله لا يرى انتفاء اللطف في فهمه الخاص لموضوع حدود الشريعة“
وهنا نقول: بما أن الشيخ حب الله على حسب كلام الكاتب - يقدم فهمًا خاصًا - لدليل اللطف، ونقول أن الشيخ المشاجرة أيضًا يقدم رؤية مغايرة - لدليل اللطف - بحيث وسع من دائرته إلى الحد الذي وصل به للقول بشمول الشريعة، فهذا الاختلاف في سعة وضيق دليل اللطف لا يعني أن الشيخ المشاجرة قد أوحى للمستمع بأن المتبني لنظرية - عدم شمول الشريعة - قد نفى الدليل؛ بقدر ما ضيّق حدوده. ومما يجدر الإشارة إليه أن هذا الدليل هو الرابع من ستة أدلة قال بها الشيخ المشاجرة نقضًا على متبنى صاحب النظرية فلم أجد الكاتب الكريم توقف عندها أو أشار بعدم تمامها في إثبات دعوى الشيخ المشاجرة!
وكذلك أشار كاتب المقال إلى ما نصه: ”ويقدم الشيخ المشاجرة إشكالاً آخر هو الأغرب، فيقول بأن الشيخ حب الله قد وقع في نفس الخطأ الذي ينتقد في «فيه» الآخرين... إلى أن قال: وحقيقة لا أعرف كيف ذهب الشيخ لهذه المقارنة الغريبة، وكيف أفهم المستمعين بأن الشيخ حب الله عنده نزعة للمخالفة هكذا من أجل المخالفة فقط؟“
هل حقيقة أن الشيخ أجرى مقارنة غريبة من نوعها؟ أو أنه أفهم المستمعين بأن الشيخ حب الله عنده نزعة المخالفة - كما قال الكاتب - أو أن الكاتب وحده من فهم ذلك؟
إذا جئنا إلى قول الشيخ والذي ينص على ما يلي: ”اتهام صاحب النظرية للفقهاء الذين قالوا بشمول الشريعة أنهم واقعون في إشكالية تأويلية هرومونطيقية، في علم التأويل «الهيرومنطيقيا» يقولون بأن الإنسان في قراءته للنصوص يكون واقعًا تحت تأثير أحكامه المسبقة. فيقول صاحب الأطروحة أن القائلين بشمول الشريعة دخلوا إلى قراءة النصوص الشرعية وهم محملين بهذه الرؤية والحكم المسبق، فأسقطوا تصورهم المسبق على هذه النصوص، وأوّلوها على أنها أدلة على التمام والشمول، ونحن نرد عليه بالإشكال نفسه، فنقول: إن الباحث المجدد متأثر بفكرة مفادها أن الموروث خاطئ، وأن معنى المعاصرة أن تنقض كل ما هو مشهور ومعروف، فهو يقرأ النصوص بحكم مسبق وهو أن الشريعة غير تامة، فيتأول النصوص بنحو يخدم حكمه المسبق. وللفصل في هذه المسألة نرى أن تعْرض النصوص على عموم الناس المحايدين، الذين لا هم فقهاء متأثرون بنظرية الشمول؛ ولا هم مجددون متأثرون بنظرية عدم الشمول؛ ونستمع لحكمهم“.
لم يكن الشيخ المشاجرة في مقام المقارنة أو أنه أفهم المستمعين بأن الشيخ حب الله لديه نزعة المخالفة - كما ذهب إليه صاحب المقال -، بل هنالك دعوى قال بها صاحب النظرية - أن الفقهاء واقعون في إشكالية تأويلية - أخرجتها من نطاق كونها علمية إلى اتهام كما عبّر عن ذلك الشيخ المشاجرة، إذ أن صاحب النظرية لم يقدم دليلاً على تأثر الفقهاء بالتأويل ومدى انعكاس ذلك على النصوص، علمًا أن من له أدنى تماس بالأروقة الحوزية يعرف مدى الاشتغال المنصّب على النصوص وتمحيصها، وعليه يكون - صاحب النظرية - دخل في رؤية تأويلية هرمونطيقية أدت إلى هذا الاتهام بحق الفقهاء! وبهذا يكون غير مستثنى مما وسم به الآخرين.
وحينما يتضح الأمر للقارئ الكريم سيقف بنفسه على أن الشيخ المشاجرة لم ينقل الحديث من الإطار المعرفي إلى بعد التحليل النفسي - كما قال صاحب المقال - بل سار مساوقًا للنظرية ناقدًا معطيتها بتدرج معرفي سليم.
ولكن ما استدعى الغرابة ما أدلى به الكاتب ونصه ما يلي: ”وهذا الأسلوب في الطرح يتكرر، وأحيانًا كثيرة، في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتصدى بعض النقاد لنقد ما يرونه خاطئًا، ولكنهم أثناء قيامهم بذلك، يلجؤون لعناوين كبيرة ومصطلحات ضخمة، وذات حساسية لأنها تلامس مناطق حساسة من الوجدان الديني...“
لا أعلم هل هذه القراءة التي قدمها الكاتب الكريم قراءة مستندة على معطيات علمية فلم يسعفه مجال المقال ليقدمه، أو أنها قراءة تحليلية نفسية لا سيما ما أشار إليه في قوله ”.. وذات حساسية لأنها تلامس مناطق حساسة من الوجدان الديني“ اترك الحكم للقارئ الكريم!
وأخيرًا أضع بين يد القارئ الكريم رابط المقالة التي كتبت:
وكذلك رابط مناقشة الشيخ المشاجرة للنظرية: