شيئا من الإنصاف
قرأت مقال مظاهر اللاجامي حول أمير المؤمنين والذي حاول تغليفه بإطار أدبي عاطفي، مزج فيه المدح والذم.
قرأت المقال في نفس ليلة نشره في مجموعة واتسابية، وفيها من الأحبة من يعرف مظاهر جيدا، فشعرت في لهجة بعضهم دهشة أن يصدر من مظاهر مثل هذا الكلام، فشككت في نفسي وأعدت قراءته عدة مرات لعلي أجد فيه لغة سرية خاصة، أو أسلوبا لم أعهده يلقي المعلومة بطريقة الاستفزاز، ولكني للأسف لم أفلح في سبر هذا النهر العميق، فآثرت حينها أن أفهم مقاله فهم البسطاء، حينها وجدت فيه نقدا لأمير المؤمنين غير قائم لا على أساس معرفي علمي، ولا على أساس موضوعي أو عقلاني.
كل ما قرأته كان تنفيسا عن حالة نفسية أو ذهنية يعيشها صاحبها لا تليق بإنسان سوي.
ولأننا كنا نمر بليالي شهادة الأمير لم أشأ أن أشغل نفسي بتناقضات المقال وتهافتاته، وآثرت أن أتزود من خلق الأمير - في مناسبته كما عرّفنا إياه تاريخه الصحيح - بعيدا عن القص واللصق من هنا وهناك، وأتفرغ للمقال لاحقا، وها قد فعلت.
كما أسلفت، الكاتب خلط بين المدح والذم، وبين غزوة وحرب من جهة وبين قمع حركة وثورة من جهة أخرى، وبين تأريخ صحيح وآخر مختلف عليه، وبين رواية يرويها راوٍ معتدل أو في الوسط وأخرى يرويها حاقد وعدو.
سنأخذ نقاطه واحدة واحدة ونسلط عليها قليلا من الضوء لأنها لا تحتاج لكثير عناء لردها، مع يقيني أنها في الذهنية الإمامية، والعقيدة الشيعية مردودة باعتبار أن عصمة الإمام عليه السلام تجعل كل فعل أو قول يصدر منه ويظهر أنه يعاكس العصمة فلا بد من تأويله أو رفضه أو إرجاعه لعلم المعصوم الذي هو أدرى بما يفعل.
- التي عقد فيها الرسول ﷺ الراية لأمير المؤمنين في السنة التاسعة للهجرة، والتي كانت مهمتها أن تكسر صنمهم الذي كان يدعى ”الفُلْس“، وهو الأمر الذي اتفقت عليه كل المصادر التاريخية التي أوردت خبر السرية.
- هذه السرية كانت مع كفار حربيين، وكان آل حاتم في حالة حرب مع المسلمين، وكانوا يضعون العيون والجواسيس في عدد من أقطار المسلمين بما فيها المدينة، وزعيمهم عدي بن حاتم الطائي هرب لاحقا للشام نتيجة ما أخبرته ”عيونه“ بالمدينة أن النبي ﷺ نوى إرسال سرية إلى قبيلته، وأيضا وقائع السرية والإمساك بجاسوس في الطريق كانت مهمته تمويه السرية «كما ذكر الواقدي وغيره» تدل أن القوم كانوا ينوون شرا بالمسلمين، وأن السرية لم تكن هجوما ابتدائيا.
- هناك تضارب كثير في تفاصيل السرية لدرجة أن ابن سعد يذكر أن قائد السرية كان خالد بن الوليد، ناهيك عن كثير من الأخبار التفصيلية والتي تدع مجالا لكثير من الشكوك حولها ولا بد من البحث والتنقيب فيها قبل إطلاق حكم أو نتيجة لورود خبر في مصدر هنا أو هناك.
- في المجمل - بعيدا عن ذكر التفاصيل المختلفة - اتفقت المصادر أن عليا وزع الخمس بين المقاتلين من تلك الغنائم، واحترم آل حاتم فتركهم حتى ينظر الرسول ﷺ في أمرهم حفظا لكرامتهم، ولم يسيئوا معاملة الأسرى أو يقتادوهم بذلة أو صغار، وتم إطلاق سفانة بنت حاتم الطائي من الأسر لاحقا في المدينة بعد أن طلبت ذلك من رسول الله ﷺ لما رأت من حسن خلقه، فرفض الرسول ﷺ ذلك ثلاث مرات إلا أن تسلم، وجعل الوسيط بينه وبينها علي بن أبي طالب في موقف لو أردنا أن نصفه سياسيا هذه الأيام لقلنا أنه ”تبادل أدوار“، فعلي يدفعها لطلب العفو كل مرة والرسول ﷺ يعرض عليها الإسلام، حتى أسلمت وأسلم كل قومها معها، وأطلق سراحهم وأعطوا الكسوة والنفقة، هذه المواقف كلها تدل أن الرسول ﷺ وعليا كانا يتجنبان الأذية بالأسرى، ويريدان الخير لهم، وبسبب هذه المعاملة الراقية استطاعت سفانة إقناع أخيها بالقدوم على رسول الله ﷺ وإعلان إسلامه على يديه.
- بعد هذا العرض السريع لسرية طي، أريد أن أورد هذه النقاط السريعة:
o السرية وقعت في عهد الرسالة، وبأمر من النبي ﷺ، وأية حادثة وقعت فيها فإنما كانت بأمر من النبي ﷺ أو بتقرير منه، وعليه فما يتهم به علي يصبح النبي الأكرم ﷺ - والذي لا ينطق عن الهوى بنص القرآن - شريكا فيه.
o الحادثة كما أسلفنا تعتبر غزوة بين المسلمين والكفار، ونظام الأسر والسبي والاسترقاق كان عرفا سائدا وقتها وهو ما نسميه في عصرنا أعرافا دولية، ولم تكن هذه الأعراف اختراعات إسلامية، بل إن تاريخ النبوة وبعده تاريخ أمير المؤمنين يدل أنهما قضيا على هذه الأعراف في حروبهما، ولا أدل على ذلك من فتح مكة حينما قال الرسول ﷺ كلمته المعروفة: ”إذهبوا فأنتم الطلقاء“، وموقفه ﷺ في الفتح كما يذكر ابن أبي الحديد حين صاح سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، اليوم أذل الله قريشا، فبلغ ذلك النبي ﷺ فنادى: بل اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله قريشا، ثم عزل سعدا عن اللواء وأعطاه لعلي وقيل لقيس بن سعد بن عبادة.
o ولننظر أيضا لحروب الإمام علي الثلاث، هل كان فيها أسرى وسبي؟
o وحتى الأسر في غزوات النبي ﷺ لم يكن إلا نادرا وفي نطاق ضيق فرضته ظروف الخيانات ونقض العهود والمواثيق أو تقدير خطورة العدو لتلقينه درسا كي لا يكيدوا هم أو غيرهم للمسلمين.
o هل واقعة كربلاء كانت بين المسلمين والكفار كي يتم المقارنة بينها وبين غزوات الكفار، وهل يوضع يزيد بن معاوية في موضع النبي الأكرم ﷺ والعياذ بالله، أم يوضع ابن زياد وابن سعد موضع الإمام علي ، وهل كان تعامل الجيش الأموي مع السبايا تعامل الأمير ، هل ننسى الرؤوس وسط المحامل، هل ننسى القيود في الأيادي والأعناق، السباب والشتائم، كشف نساء بيت النبوة في المجالس وسط الرجال، السياط، النياق الهزل، ضرب ثنايا الحسين أمام عياله وأهل بيته، وكثير من الفظائع التي مرت على ذلك الركب الطاهر، هل تصح هذه المقارنة؟
- هناك بحث وتحقيق جميل للشيخ حسين الخشن نشره في كتابه حول الفقه الجنائي في الإسلام حول روايات الإحراق، كفاني هذا البحث مؤونة إيراد الآراء من هنا وهناك، وسألخص نتيجة بحثه في نقاط مضغوطة، وبإمكان من أراد التوسع الرجوع للبحث نفسه.
- يورد الشيخ في روايات الإحراق مجموعتين أساسيتين من الروايات، الأولى ما يتعلق بحرق عبدالله بن سبأ على وجه الخصوص، ورغم أن السيد العسكري أثبت بالتحقيق خيالية هذه الشخصية وعدم وجودها، إلا إننا تنزلا سنتماشى مع الروايات، وسنجد فيها تناقضات غريبة، حيث في نفس الروايات سنشم رائحة أن ابن سبأ كان حيا بعد استشهاد الأمير، وسنجد أن هناك روايات تاريخية تناقض هذه المجموعة وتقول أن الأمير نفى ابن سبأ إلى المدائن، أوردها النوبختي والشهرستاني وابن أبي الحديد، وتؤكد هذه الروايات التاريخية أن عبدالله بن سبأ بقي على قيد الحياة بعد مقتل أمير المؤمنين وكان بالمدائن وبلغه خبر مقتل الأمير وأبى أن يصدق أن الأمير قتل.
- المجموعة الثانية تتعلق بإحراق الأمير جمعا من الغلاة ممن قالوا بربوبية الأمير ، وفي هذه الروايات ضعف بيّن في السند، ففي أحدها شريك، وهو ممن لم تثبت وثاقته، وفي أحدها عكرمة، وهو متهم بالكذب سيما على سيده عبد الله بن عباس حتى ضرب به المثل في الكذب، لدرجة أن علي بن عبد الله بن عباس ربطه على باب الحش لكذبه الكثير على أبيه، كما أن عكرمة كان معروفا ببغضه للإمام علي لذا كان يروي بعض رواياته للانتقاص من قدر الأمير ومنزلته.
- وهناك عدد من الملاحظات العامة على مجمل روايات الإحراق، أولها أن عمدة روايات الإحراق رواها الكشي، أما غيرها فهي كلها مراسيل لا يعتد بها، أما روايات الكشي فلا تخلو من إشكال، ورغم أن الكشي وثقه علماؤنا وأثنوا عليه، إلا أنهم استشكلوا على كتابه، فقال النجاشي: ”له كتاب الرجال، كثير العلم، وفيه أغلاط كثيرة“ وقال المحقق التستري: ”وأما رجال الكشي فلم تصل نسخته صحيحة إلى أحد، حتى الشيخ «الطوسي» والنجاشي، وتصحيفاته أكثر من أن تحصى، وإنما السالم منه معدود“ وأضاف التستري: ”وبعدما قلنا من وقوع التحريفات في أصل الكشي بتلك المرتبة، لا يمكن الإعتماد على ما فيه إذا لم تقم قرينة على صحة ما فيه“.
- من ضمن الملاحظات أن روايات الإحراق متعارضة فبعضها تقول أنهم أحرقوا وبعضها يقول أنهم تم خنقهم بحبس الأوكسجين عنهم.
- يرجح الشيخ الخشن أن روايات الإحراق موضوعة من قبل خصوم الأمير الذين وضعوا هذه الروايات على قاعدة مقابلة المثلبة بمثلها، بهدف التخفيف مما فعلته بعض الرموز التي ينتسبون إليها، والإيحاء بأنهم لم ينفردوا بهذا الفعل، فالمعروف في المصادر التاريخية أن أبا بكر أحرق الفجاءة السلمي، كما أن خالد بن الوليد قد أحرق جمعا من بني سليم، ومن أراد تفصيل الحادثتين فليراجع تاريخ الطبري، والكامل لإبن الأثير، وتاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر، ومسند أبي يعلى.
- عجيب هذا الاستنتاج والخلط بين الأمور، فهل من يمتلك علم السموات، وعلوم الكون يدعو الغلاة لربوبيته؟ وهل من يهبه الله بعض القدرات الخارقة يؤسس للغلو فيه؟ ها هو القرآن يصدح بمعاجز لا يمكن تصورها، ولنأخذ قصة نبي الله سليمان ولنقرأها جيدا فتارة يفهم منطق الطير والحشرات، وتارة يحرك الريح كيف يشاء، وتارة يأتمر الجن بأمره، ولا تكتفي القصة بالنبي وحده، بل عنده عفريت من الجن يأتيه بالعرش قبل أن يقوم من مقامه، وتتصاعد وتيرة القصة ليبرز عبد مثلنا، آتاه الله علما ”من“ الكتاب فيأتي بعرش اليمن قبل أن يرتد إليه طرفه، فلا يغلو في هؤلاء أحد، وحين يغلو أحدهم في علي يكون علي هو السبب، وقصة عيسى لا تقل أعجوبة عن قصة من سبقه، فمريم كان يأتيها رزقها عندها، وتحمل من غير زوج، ويتحدث رضيعها في المهد، ويكبر فيأتي قومه بمائدة من السماء، ويبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى، ويتجاوز إلى أن يرفعه الله ليظل حيا إلى الآن.
- ثم هل كل ما ورد في كتب هنا أو هناك بلسان علي نعتبره صحيحا ونأخذه على علاته ونبني عليه أهرامات من استنتاجات تلعب بها أهواؤنا؟
- ولماذا تناسى الكاتب ما قاله نبي الإسلام ﷺ في ابن عمه ؟ هل لأنه سيتورط في وصم النبي الأكرم ﷺ بأنه من أسس للغلو في علي ؟ مع شكي في أن من يتهم عليا هذا الاتهام، لن يحرك فيه ساكنا أن يتهم النبي أيضا.
- ثم أليس هناك تناقض في قول أن عليا أحرق المغالين فيه، وبين قول أنه أسس للظاهرة وشجّع عليها؟ ألا تشفع الأولى له - حسب قناعة الكاتب - بأنه لم يشجع على هذا السلوك؟
- مرة أخرى يريحني هذا الكاتب كثيرا لقلة إطلاعه، وعقم معلوماته، فلا أجد صعوبة في استذكار تاريخ قرأناه وسمعناه في طفولتنا.
- النضر بن الحارث من بني عبد الدار، وهو ابن خالة النبي ﷺ، وكان يحمل بعض المعارف من مخالطته لليهود وللفرس ولأهل الحيرة.
- والنضر شخصية عدائية جدا، وقد آذى النبي كثيرا في بداية الدعوة بالتكذيب والاستهزاء والإشاعات والدعاية، وكان يجلس مجلسا يقلد فيه رسول الله ﷺ أو يحضر مجلس النبي ﷺ ويقاطعه بقصص الفرس وملوكهم، وكان يواجه النبي بكثير من الادعاءات، ويذكر القمي أن النضر حاول اغتيال النبي فأنجاه الله بمعجزة، والقصة موجودة بالكامل في مظانها.
- نزلت في النضر عدد من الآيات التي أكد المفسرون أنها نزلت في ذمه، ومنها: ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا﴾، كما نزلت فيه: ﴿ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير﴾، وغيرها الكثير مما أوردتها التفاسير.
- وما رواه ابن إسحاق في تاريخه عن مقدم النضر ليتحدى رسول الأمة ﷺ بثلاثة أسئلة استقاها من اليهود، قصة يشوب سندها الضعف لأن فيها شخص مجهول، بل إن بعض المستشرقين أيضا نص على كذبها كما يذكر ولفنسون في كتابه ”تاريخ اليهود في بلاد العرب“.
- ثم إن الأسئلة الثلاث المذكورة في القصة جوابها موجود في القرآن وبالتفصيل، ففي سورة الكهف تفصيل لقصة أصحاب الكهف مما لم تذكره التوراة والإنجيل مجتمعين، وكذلك قصة ذي القرنين، أما الروح ففي الآية تحدٍ واضح بأنهم كانوا هم لا يعرفون ماهية الروح ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾، فأين هو هذا التحدي الذي أزعج الأمير وجعل النبي عاجزا عن الجواب.
- ورغم أن كتب السيرة النبوية شاع فيها أن النضر قتله أمير المؤمنين صبرا بعد أن أسر في بدر، إلا أن محققي التاريخ لم يستطيعوا إثبات هذا الأمر لأنه لا مصدر له ولا رواية صحيحة تعضده.
- فابن إسحاق يقول ”قتله علي بن أبي طالب كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة“، وابن هشام يقول ”ويقال قتله علي بن أبي طالب فيما ذكر لي ابن شهاب الزهري وغيره من أهل العلم“، وجمع الألباني عددا من هذه المرويات ضعف بعضها، وقال عن بعضها ”هذا معضل“ وقال عن أخرى مرسلة، وهكذا ترى حال هذه الروايات.
- أما ابن كثير في ”النهاية في غريب الحديث“ وآخرون غيره كذلك فيذكرون أن النضر حينما أسر كانت به جراحة، فامتنع عن الطعام والشراب ما دام في أيدي المسلمين، فمات.
- ولو فرضنا أن الرواية الأشهر - والتي لم تثبت بمختلف طرقها - هي الصحيحة، وأن عليا قتله بعد أسره، فمعظم هذه الروايات تقول أن الرسول ﷺ هو من أمر بقتله لخطورته على الإسلام ولشدة عدائه للنبي ﷺ، وما ذكرناه من أمثلة أعلاه نزر يسير مما قام به هذا الرجل، وقتل مجرمي الحرب والقتلة حين القبض عليهم أمر معمول به منذ قديم الزمن وإلى يومنا، فلا وجه للاعتراض إطلاقا.
- ولا أدري من أين أتى الكاتب أن النضر قتل في تحدٍ معرفي علمي عقائدي.
- أولا لا بد من بيان أن الإمام علي لم يذهب لليمن مرة واحدة، بل إن الرسول بعث الأمير في سريتين أو ثلاث، وهو ما أحدث إرباكا أو خلطا لدى كتاب السيرة.
- ورواية الجارية يذكرونها في سرية أرسل الرسول ﷺ فيها خالد بن الوليد، في السنة الثامنة للهجرة، وهي نفس السنة التي أسلم فيها خالد، ومكث ستة أشهر يدعو قبيلة همدان ويحاصرها بجنوده دون فائدة، فأرسل الرسول ﷺ علي بن أبي طالب وأمر خالد بن الوليد بالرجوع، في حين يبقى من الجند من يشاء مع علي ويرجع من يشاء منهم، وكانت المفاجأة أن عليا وبعد أول صلاة أمّ فيها جنده أخذ رسالة رسول الله ﷺ إلى همدان وقرأها عليهم فإذا بهمدان تسلم كلها في تلك اللحظة، وبلغ ذلك رسول الله ﷺ فاستبشر وفرح، فإذا هذه السرية لم يكن فيها أسرى ولا غنائم ولا سبايا.
- وللعلم الخلط وصل في هذه السرية أعلاه حتى في سنة وقوعها، فبعض كتاب السيرة ذكروا أنها كانت في السنة العاشرة للهجرة، خالطين بينها وبين سرية أخرى.
- في إحدى السرايا إلى اليمن يروي كتاب السير أن النبي ﷺ أرسل عليا إلى اليمن ليستلم من خالد بن الوليد الخمس والغنائم ويقسمها ويوزعها، وآخرون قالوا إنها كانت سريتين لمكانين مختلفين والرسول أوصى أنه إذا كانت حربا فالقيادة لعلي، وفي هذه السرية احتفظ علي لنفسه بجارية كنصيب له من غنائم تلك القسمة، فكتب خالد بن الوليد مع بريدة بن الحصيب - وكان يبغض عليا - رسالة يشتكي فيها عليا، وفي تعبير الترمذي ”يشي به“، فلما وصل بريدة بالرسالة إلى النبي ﷺ وقرأها ﷺ تغير لونه وقال: ”من كنت وليه فعلي وليه“، ثم قال ﷺ: ”يا بريدة أتبغض عليا؟“ فقال بريدة: نعم، فقال ﷺ: ”لا تبغضه، فإن له في الخمس أكثر من ذلك“ وفي رواية أخرى ”والذي نفسي بيده لنصيب علي في الخمس أفضل من وصيفة، وإن كنت تحبه فازدد له حبا“ وفي رواية ثالثة ”لا تقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم بعدي“، ويقول بريدة - الذي كان يبغض عليا - فما كان في الناس أحد أحب إلي من علي.
- هذه الرواية أعلاه ذكرت في عدد من المصادر بألفاظ شتى وعلى لسان بريدة، ذكرها الترمذي في سننه، والقندوزي في ينابيعه، والمجلسي في بحاره، وأحمد والبخاري والنسائي، وذكرها صاحب فتح الباري، وفي سيرة ابن كثير وسيرة ابن هشام وشرح إحقاق الحق وغيرها كثير من المصادر.
- وفي رواية المفيد في إرشاده أن بريدة التقى عمرا قبل لقاء النبي ﷺ، وصار بينهما حديث أخبر فيه بريدة عمرا أنه جاء إلى النبي ﷺ ليقع في علي في موضوع الجارية، فقال له عمر: ”امض لما جئت له، فإنه سيغضب لإبنته مما صنع علي“.
- يتضح من هذه الروايات:
o أن هناك في الصحابة من كان يحمل في داخله شيئا تجاه علي .
o أن هذا وصل لمرحلة إيذاء قلب النبي ﷺ.
o وهذه المشاكل الشخصية الداخلية تجعلنا نشكك في أصل وقوع الفعل من الأمير ، حيث قد تكون وشاية لم يقع فيها الفعل.
o أن الرسول ﷺ أيّد فعل علي - سواء ثبت صدور الفعل ام لم يثبت - وأعلن وقوفه مع الأمير ، وبالتالي وقوف الوحي معه أيضا.
o استطاع النبي ﷺ بفعله كسب بريدة وقلب الحركة ضد المعسكر الآخر.
- والآن نأتي لأصل الفعل، ونسلم مع كثرة الروايات أن عليا أخذ لنفسه جارية من خمس الغنائم:
o أليس هو كغيره من المقاتلين له نصيب من تلك الغنائم؟
o هل فعله هذا يخالف الدين أو العرف السائد؟
o لماذا نصنف المسألة في إطارها الجنسي كما حاولت بعض الروايات الضعيفة ذلك؟
o وهل سيرفض رسول الله ﷺ بل والزهراء حكما مباحا شرعه للمسلمين؟
- إن أسلوب الانتقاء والغمز واللمز من هذه القنوات لا يدل على موضوعية، ولا على إطلاع، بل هو جهد العاجز.
وفي الختام، فعلا يا أمير المؤمنين، لقد فزت حين فارقت من دنياك أناسا عرفوك جهلا، وجهلوك عارفا، فزت، ولكن تهدمت أركان الهدى.