آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

صائم وثلاث من لياليه

سهام طاهر البوشاجع *

كان ينتقل من يوم إلى آخر ومن ليلة إلى ليلة تليها في شهر عُد من أفضل الشهور وأيامه من خير الأيام وساعاته من أقدس الساعات، نومه فيه عبادة، وأنفاسه فيه تسبيح، وأعماله فيه مقبولة مالم يخلط بها مذموم أو قبيح، هكذا هو حال شهر رمضان المبارك ومن يصومه فهو غارق في بركاته التي لا تعد ولا تحصى، وبين مستدرك لهذه النعم أو متغافل عنها فهي كلها تمر على الجميع بخير وتباشير وتحن عليهم كما يحن الآباء على أبنائهم.

كل شيء يختلف في شهر رمضان، عباداته، عاداته، طعامه، وحتى ساعة الناس البيولوجية فيه تختلف فيسهر الناس فيه إلى ما بعد الفجر وينامون نهاره إلى ما بعد صلاة الظهر وهو خلاف ما اعتدنا عليه في بقية الشهور من السنة.

تمر الثلاثين ليلة من ليالي الشهر على الصائم مرورا سريعا، تحمل أحاديث وحكايا جميلة، تحفر في ذاكرته من طيبها وتخزن في عقله الباطن من نوادرها، تبقى لسنوات طويلة ومن بين تلك الليالي ثلاث مميزة فيه، تكون مختلفة بطبائعها وعاداتها وبشكلها العام، ثلاث ليالٍ تحمل طابعا مختلفا ووقعا حزينا في نفس الصائم، وهي ليلة التاسع عشر والليلة العشرين والليلة الحادي والعشرين منه، ليالٍ توشحت بالسواد خيم عليها الحزن وقُدر لها أن تكون ضمن ليالي شهر رمضان الثلاثين.

الليلة التاسعة عشر وهي الليلة التي كان فيها أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب في السنة 40 للهجرة وقبل صلاة الفجر يردد «إنا لله وإنا إليه راجعون.. إنها والله الليلة» وكان يقول: «والله ما كَذبت ولا كُذّبت، وإنها الليلة التي وعدت»، فبماذا وعد في هذه الليلة؟

أمير المؤمنين علي سيف الإسلام الخالد ودرعه وأول المصدقين بنبوة النبي محمد ﷺ كان ينتظر هذه الليلة التي وعد فيها بقتله على يد من أحسن له في معيشته وتنشئته التنشئة الصالحة، فقد شارك في عدد من المعارك معه وكان إلى جانبه ومن أنصاره، إلا أن فتن الحياة وبريق الذهب قد يخسر الإنسان أثمن ما يمتلكه وهو إنسانيته، هكذا خسر ابن ملجم إنسانيته عندما تآمر مع مجموعة من الفساق في ذلك الزمان بقتل الرجل الأول في الدولة، وصهر النبي وزوج ابنته وابن عمه وخليفته وخليفة المسلمين ووالد الأئمة الراشدين.

الليلة التي ضرب فيها علي بن أبي طالب على رأسه بسيف نقع بالسم أربعين يوما، كانت من أشد الليالي حزنا ضمن ليالٍ تضج بالاستثنائية والفرح والبهجة، فيها رفع صوت الحق جبرائيل جملة هزت كل منازل الكوفة في تلك الساعة حيث قال: «تهدمت والله أركان الهدى» وقد تهدمت القلوب حينها وتهاوت الآمال وانطمست الأحلام؛ فأبُ الناس والأيتام قد خر إلى الأرض وهو في سجوده متأثراً بجراح تلك الضربة اللعينة.

وتعد الليلة التي تليها وهي الليلة العشرين من أقسى الليالي على عامة المسلمين الشيعة، وبالأخص على أهل بيت النبوة ليس لتأثير الصيام والحزن عليهم معا، بل لمعرفتهم مقدار الألم الذي كان يعاني منه أمير المؤمنين في تلك الليلة، حيث سرى السم في كامل جسده، ولكم أن تتخيلوا كيف لجسد أن يتحمل ألم ضربة بسيف حاد ومسموم وفي مكان كالرأس، ولكم أن تتخيلوا أيضاً موقف أبنائه وهم يرونه بهذه الحالة، بل وكيف رأى المسلمين إمامهم يعتصره الألم ثلاث ليالٍ متتالية.

أصفراء كانت الخرقة التي ُشد بها رأس أمير المؤمنين أم انعكس لون وجهه الشاحب المصفر من أثر المرض على لون تلك العصابة؟

كان أبناؤه الحسن والحسين وزينب وإخوته وأهل بيته يراقبونه لحظة بلحظة وساعة بساعة حتى دنت الليلة الثالثة وهي الليلة الحادية والعشرين من ليالي الشهر الفضيل، فيها كان نبضه يتراجع تدريجيا، ووهن جسمه يتفاقم تصاعديا، وكانت عيناه تدور عليهم وشفتاه تتمتم بوصاياه لهم، كيف لا وهو من يعرف أن مواعيد السماء لا تنكث وأن قضاء الله ماضِ ومبرم وأن ساعات بقائه في هذه الدنيا قليلة وأوشكت على الانتهاء.

وفي زاوية من زوايا أزقة الكوفة كانت هناك مسيرة من أقدام صغيرة وأيدي مرتعشة تمسك بكؤوس الحليب وتقف صفا على باب علي، إنهم يتاماه الذين لم تُعرف لهم يد حانية في ذلك الوقت إلا يده ، ها هي في الليلة الثالثة من الليالي الكئيبة تفقدهم للمرة الثانية حنان الأب وعاطفته، والأمان الذي تأملوا أن يرافقهم حتى يكبروا ويشتد عودهم، لم يمهلهم غدر النفس البشعة ولم تجعلهم يحققون أحلامهم فاغتالوا أباهم.

الكل كان يترقب أن يقوم من محنته ويكمل صيامه أو لعلها كانت أمنيتهم بأن يزين العيد وجوده المبارك فتزداد طمأنينتهم وأفراحهم وتتعالى مسيراتهم، إلا ثلة كانت تتمنى عكس ذلك، غرتهم الحياة وبريق ذهبها وكرسي ملكها، فغدروا وخانوا وخططوا لأن تخلو الأرض من علي وأبنائه وتتسع لهم بما رحبت، يرقصون ويغنون ويمتلكون دون حسيب ولا رقيب يساوي ويعدل بينهم، فمضوا في وادي الشقاء هم ومن على شاكلتهم.

قد تمر ليالي شهر رمضان مرورا جميلا على نفس الصائم تشحذه وتقويه وتجدد عهده بربه إلا أن هذه الليالي الثلاث المميزة تسقيه من الخلق خلقا جميلا ومن الحب ولاء عظيما ومن القيم وفاء صادقا ورباطا مقدسا بأهل بيت النبوة تشعل له في بقية الأيام نوراً يهتدي به ويستنير بنوره.

كاتبة ومحررة في صحيفة المنيزلة نيوز