آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

مناقشة الشيخ / المشاجرة لكتاب الشيخ حيدر حبّ الله ”شمول الشريعة“

محمد رضا رجب

ناقش سماحة الشيخ الدكتور إسماعيل المشاجرة حفظه الله مؤخّراً في إحدى خطبه كتابَ الشيخ حيدر حب الله ”شمول الشريعة، بحوث في مديات المرجعية القانونية بين العقل والوحي“. وبعد الاستماع إلى خطبة الشيخ المشاجرة، يتداعى إلى الذهن مباشرةً السؤال التالي: هل تضمّنت خطبته أي رد ”حقيقي“ على الشيخ حيدر حب الله؟

أتصوّر أنّ مناقشة الشيخ المشاجرة لم تتضمّن أيّ ردٍّ حقيقيّ على أفكار كتاب الشيخ حبّ الله، ولكنّ المستمع لها قد يتصوّر بأنّها قد تضمّنت على ردود قاطعة وحاسمة. وربما يكون قد تشكّل على إثر مناقشته انطباعٌ لدى المستمعين بأنّ للشيخ حبّ الله موقف سلبي من الشريعة. ولعلّنا نجد أنّ هذا النوع من المناقشات والردود يتكرّر حين تُطرح قضايا كهذه بشكل عام وفضفاض، وعلى الملأ، وبصورة مقتضبة، دون الدخول في التفاصيل؛ فيُظلم الباحث «في حالتنا هو الشيخ حب الله»، لأنّ رأيه لم يصل بشكل كامل وصحيح.

يذكر الشيخ المشاجرة مثلاً في إشكاله الأوّل على أطروحة الشيخ حب الله، وبشكل غريب، وجود آيات قرآنية وروايات تؤكّد مبدأ شمول الشريعة بالمعنى المدرسي للكلمة، أي أنّ الشريعة تحتوي على حكم لكلّ واقعة إلى يوم القيامة. ثم يسرد الشيخ المشاجرة بعض هذه الآيات والروايات لإثبات مفهومه لشمول الشريعة.

وهذا غريب جدا، وكأنّ الشيخ حبّ الله لم يتعرّض لهذه الروايات والآيات بشكل مفصّل. والواقع أنّ الشيخ حبّ الله قد ناقشها جميعاً، رواية رواية، متناً وسنداً، إجمالاً وتفصيلاً، وقدّم رأيا شاملاً فيها، وفهماً متكاملاً لها، في كتابه ”شمول الشريعة“، وفي عشرات الصفحات. فكيف يكتفي الشيخ المشاجرة هنا فقط بسرد بعض الآيات والروايات على المنبر، كدليلٍ ضدّ فكرة الشيخ حب الله دون أن يذكر رأي حبّ الله في هذه الروايات ولو بشكل إجمالي؟

وفي إشكال ثانٍ، يشير الشيخ المشاجرة إلى ”دليل اللطف“ كدليل على مفهومه لشمول الشريعة؛ والمعنيّ بدليل اللطف أنّ الله تعالى لا يمكن أن يترك عباده دون حكم وتفصيل لكلّ واقعة وحدث. وكأنّ الذي يقدّمه الشيخ حب الله من فهم حول حدود تدخّل الشريعة في حياة الناس يقتضي انتفاء هذا اللطف. وهذا غير صحيح، لأنّ الشيخ حب الله لا يرى انتفاء اللطف في فهمه الخاص لموضوع حدود الشريعة. كل ما في الأمر أنّه يقدم فهماً آخر. فهنا مرّة أخرى لا نجد ردّاً ”حقيقيّاً“ على أفكار الشيخ حبّ الله؛ بقدر ما نرى إيهاماً للمستمع  وربما يكون ذلك بدون قصد من فضيلة الشيخ المشاجرة  بوجود رد علمي يرتكز على أدلة منطقيّة وشرعيّة.

ويقدّم الشيخ المشاجرة إشكالاً آخر، وهو الأغرب، فيقول بأنّ الشيخ حب الله قد وقع في نفس الخطأ الذي ينتقده في الآخرين. فالشيخ حب الله يزعم بأنّ أتباع الفهم المدرسي لمفهوم شمول الشريعة قد تأثّروا عند مقاربتهم لروايات شمول الشريعة بحكمهم المسبق في هذه المسألة، فلم يفهموها إلا بمقتضى ذلك الحكم المسبق، وهو أنّ الشريعة لابد وأن يكون لها حكم لكلّ واقعة. فيعلّق الشيخ المشاجرة على فكرة الشيخ حب الله بقوله أنّه قد وقع أيضاً فيما ”اتّهم“ به الآخرين؛ فهو أيضاً  أي حبّ الله  متأثر بفكرة مسبقة عنده، وعند ”أصحاب البحوث المعاصرة“، وهي أنّ الموروث ”لابدّ“ وأن يكون خاطئاً، وأنّ معنى المعاصرة والعصرنة والتجديد تساوي نقض ونقد كلّ ما هو مشهور وكلّ ما هو موروث. وبالتالي فإنّ الشيخ حب الله قد قرأ هذه النصوص بعقليّة وأحكام مسبقة، وهي أنّ الشريعة ”غير تامّة“.

وحقيقةً لا أعرف كيف ذهب الشيخ لهذه المقارنة الغريبة، وكيف أفهَمَ المستمعين بأنّ الشيخ حب الله عنده نزعة للمخالفة هكذا من أجل المخالفة فقط؟ فهل الشيخ بنى هذا الحكم بعد اطّلاع على إنتاج حبّ الله؟ فإن كان الأمر كذلك، فهلّا أشار إلى الموضع من إنتاج الشيخ حب الله الذي استنتج منه هذا الحكم الذي أطلقه علناً من فوق المنبر؟ وكيف قطع بأنّ حب الله له هذه النزعة في مخالفة المشهور من أجل المخالفة، وأنّه يعتبر التراث خطأ بشكل مسبق؟

وثانياً، حتى لو فرضنا أنّ الشيخ حب الله يخالف المشهور هنا، فلا وجه للمقارنة التي يطرحها الشيخ المشاجرة. فالشيخ حب الله أشار إلى تأثّر الآخرين بحكمٍ مسبق في قضيّة محددة، وهي فهمهم لمسألة شمول الشريعة، وبالإحالة إلى رأي لعبدالكريم سروش، الذي قال بأنّ من يحمل مسبقاً عقيدة شمولية في النص الديني ويرى أنّ النص يتصدّى للحديث عن كلّ صغيرة وكبيرة في الحياة، فإنه سوف يقدّم بشكل تلقائي تفسيراً للنص على هذا الأساس، مما يعني أنّ ”المصادرات القبلية حول النص هي التي تساعد في تفسير النص“. وهذا يختلف اختلافاً جذريّاً عمّا يتحدّث عنه الشيخ المشاجرة؛ لأنّ الشيخ المشاجرة أخذ الحوار لمنحى بعيد ومختلف، ونقله من الإطار المعرفي إلى إطار التحليل النفسي لتوجّه الشيخ حب الله، وكأنه بذلك يتهم الشيخ حبّ الله بأنّ عنده ”نزعة نفسيّة“ لمخالفة المشهور بشكل عام. فالمقارنة لا تصحّ بأيّ شكلٍ من الأشكال.

وثالثاً، حتى على فرض وجود هذه النزعة عند الشيخ حب الله، فذكرها بهذه الطريقة ليس رداً ولا حتى نصف ردّ على القضية، وإنّما فقط تخلق تشويشاً على قضية البحث، بينما فكرة الشيخ حب الله عن المصادرات القبلية في السياق التي ذكرها في كتابه تقع في صميم البحث.

والخلاصة: إنّ طرح الشيخ المشاجرة هذا يعتبر نموذجاً  مع إيجابية كونه طرحاً هادئاً، وليس انفعاليّاً  على ردّ هو أقرب لأن يكون إيهاماً بالرد من كونه رداً حقيقيّاً. فبالإضافة إلى كونه لم يقدّم ردوداً حقيقيّة، فإنّه قد ساهم  ربما بدون قصد  بخلق صورة سلبية عن صاحب الأطروحة الأصليّة عند المستمعين، الذين ربما لم يتح لهم قراءة الأطروحة كاملة بأدلّتها من مصدرها الأصلي. وهذا الأسلوب في الطرح يتكرّر، وأحيانا كثيرة، في وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يتصدّى بعض النقّاد لنقد ما يرونه خاطئاً، ولكنّهم أثناء قيامهم بذلك، يلجؤون لعناوين كبيرة ومصطلحات ضخمة، وذات حساسية لأنّها تلامس مناطق حساسة من الوجدان الديني، ويطرحونها بدون تفصيل، فتثير مشاعر سلبيّة عند المستمعين، بالأخص حين توجد سبقيّات ضدّ الجهة التي يتمّ نقدها. لذلك فإنّ أغلب النقود التي تأخذ هذا الطابع، تكون غير منصفة، ومليئة بالمغالطات المنطقيّة، الواضحة أحياناً، والخفيّة في أحيان أخرى.

هذا، ولفضيلة الشيخ المشاجرة كلّ الاحترام والتقدير.