سنامُ الحياة
تخرج إلى هذه الحياة من صلب أبيك ورحم أمك لتتربى فيها وليداً وتلبث فيها من عمرك سنين.
تتعايش مع أحداثها الحلوة والمرة، أما أنا فقد فقدت أبي قبل أن يسعفني القدر حتى لرأيته فقد أنتقل إلى العام الآخر إلى جوار ربه والوالدة حبلت بي.
أكبر وأشب ويشتد عودي وأبلغ مبالغ الرجال في كنفها وتحت رعايتها وإذا بداعي الموت يختطفها من بيننا فذهبت راضية مرضية، رحلت وهي في مرضها حامدة شاكرة مستغفرة لاهجةً بذكر ربها على الدوام.
كانت تملأ المكان والزمان بذكر محمد وآل محمد صلاة الله عليه وعليهم أجمعين.
أتذكركِ يا أماه كيف كنت تخافي علينا من كل هامة ولامة حتى من البرد والحر، أتذكركِ كيف كنتِ تحرصين على أن نلبس وكيف كنتِ تدثريننا باللحاف، فكيف نحن استطاعت أيدينا أن تواريك في كفنك يا أماه، أتذكركِ وأنتِ تشترين لي الألعاب وأنا أبكي صغيراً، اشتريتِ تلك السيارة الصغيرة وكيف استطعنا أن تكوني في سيارة الإسعاف التي انتقلت بكِ إلى بيت الأموات.
لازلت أتذكر اللحظة التي أخذتيني فيها وذهبتي بي إلى المدرسة ليتم تسجيلي هناك وكيف أخذناك نحن إلى المقبرة، آه، يالها من مفارقة.
أتذكركِ يا أماه في كل مرة أدخل فيها إليكِ البيت كيف تفرحين بقدومي وفي كل مرة أخرج كيف تلهجين لي بكل الدعوات الصالحات «الله يوفقك ياولدي، الله يطيل عمرك ياولدي، الله يحفظ ياولدي»، كيف نحن قابلنا هذه الدعوات بالبكاء والنحيب على فقدك يا أماه.
لم نكن نعي وأنتِ بيننا أنكِ أنتِ سنام الحياة أنكِ أنتِ الرسالة أنكِ أنتِ المدرسة الكبيرة التي تضم كل من حولها تحت جناحها وكنفها.
- الأم مدرسة إذا أعددتها... أعددت شعباً طيب الأعراق
فالأم المدرسة الأولى التي يتعلم منها كل إنسان، الأم مدرسة لا بقلمها بل بقلبها والأم مدرسة لا بجدرانها بل بحبها وعطفها وحنانها، وصدق من قال «من روائع أو أروع ما خلق الله قلب الأم».
وكم هي جميلة مقولة «وليم شكسبير» «ليس في العالم رسالة أنعم من حضن الأم»[1]
وكلنا نتفق أن قلب الأم هو الحصن الحصين والجنة الدائمة بعد عطف المولى ورحمته يقول الملاكم الشهير «محمد علي كلاي» «كل القلوب يغيرها الوقت إلا قلب الأم جنة دائمة»[2] .
ولا يقل الشعراء عن غيرهم في الصدح باسم الأم وقلبها وأحاسيسها، فهذا الشاعر عبدالله البردوني يقول: -
«تركتني هنا بين العذاب... ومضت يا طول حزني واكتئابي
تركتني للشقا وحدي هنا... واستراحت وحدها بين التراب»[3]
ويقول الشاعر كريم معتوق في الأم: -
أوصى بكِ الله ما أوصت بك الصحف
والشعر يدنو بخوف ثم ينصرف
ما قلت والله يا أمي بقافية
إلا وكان مقاماً فوق ما أصف
يخضر حقل حروفي حين يحملها
غيم لأمي عليه الطيب يقتطف[4] .
وكما يقول الشاعر إبراهيم السمري: -
حبتّني عطفها مذ كنت طفلاً
وفاضت بالمحبة والحنان
ورغم الفقر كم جادت علينا
يداها بالندى مبسوطتانِ[5]
نعم هي الأم فمهما قيل فيها ما قيل ومهما كتب فيها من كتب وأشعر فيها من أشعر تبقى لم توفى حقها ولا جزء منه.
فهي أحق الناس بالجميل والصحبة والطاعة والبر، فعن معاوية بن حيدة القشيري قال «قلت يا رسول الله مَن أَبر، قال أمك: قال قلت: ثم من قال: أمك قال قلت: ثم من قال: أمك قال قلت ثم من قال: أباك ثم الأقرب فالأقرب»[6] .
نسأل المولى الكريم أن نكون ممن وفّق لبر والديه ولاسيما الأم العزيزة التي رحلت إلى رضوان الله تعالى في يوم الأربعاء 25 شعبان 1442 هـ ، الموافق 7 أبريل 2021م.
فرحمها الله تعالى وأنزل عليها شآبيب رحمته وأسكنها الفسيح من جنته.