تغيرات فوق رقعة الشطرنج
منذ عام 2003، بدأت مؤشرات التمرد على الأحادية القطبية التي سادت منذ سقوط حائط برلين، في نهاية الثمانينات من القرن المنصرم. وبدا ذلك جلياً في التهديد الفرنسي باستخدام حق النقض تجاه أي قرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي، يسمح لإدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش باستخدام القوة، تحت ذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل في العراق. وقد اعتبر الموقف الفرنسي حينها، أول تحدٍ لهيمنة الإدارة الأمريكية على صناعة القرارات الأممية.
هذا التغير الذي طرأ في موازين القوة الدولية، لعله الأسرع في مجمل التاريخ الإنساني. فالإمبراطوريات عادة تمر بدورات طويلة، تحكم فيها قبضتها على ما حولها من البلدان، كما هو الحال مع الحضارات القديمة: فارسية ويونانية ورومانية. وكان الأبرز في طول عمر الإمبراطوريات هو صمود الحضارة العربية الإسلامية، وأيضاً السلطنة العثمانية التي امتدت لحقب لا يستهان بها من التاريخ الإنساني المكتوب.
في الإمبراطوريات القديمة، لم يكن هناك تعريف متفق عليه في النظام الدولي. وسبب ذلك يعود إلى غياب المؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، كما هو الحال مع عصبة الأمم، وهيئة الأمم المتحدة، اللتين تشكلتا في القرن الماضي. وكان التمدد والتوسع والانكماش في جغرافيا الإمبراطوريات القديمة، محكوم بالقوة، وليس هناك مانع قانوني أو أخلاقي يحول دونه. وكانت مشروعية الهيمنة والتوسع، محكومة فقط، بما عرف بحق الفتح.
النظام الدولي في العصر الحديث، لم يخرج عملياً عن قانون حق الفتح، وإنما تمت عقلنة هذا القانون، بما تم التوافق عليه في الأطر الناظمة للعلاقات. وتغيير هذا النظام، مرتبط بتغيير الفاعلين الدوليين، والبيئة التي تتم فيها العلاقات الدولية، وفقاً لمصالح أصحاب القوة والنفوذ. والنظام الدولي الجديد، لا يتحقق بالتراضي والقبول؛ بل يخرج من رحم الصراعات والحروب. وعلى ضوء نتائج هذه الصراعات، يفرض المنتصر شروطه، وليس على أولئك الذين رفعوا راية الاستسلام، سوى القبول به.
وليس من شك في أن دخول الصناعة الذرية، إلى ترسانة الأسلحة الفتاكة «كسلاح ردع» حال دون اشتعال حروب عالمية جديدة، ومنع حسم الصراع بين القوى الكبرى المتنافسة، بقانون الضربة القاضية. وذلك ما يفسر لنا كيف أن بداية التمرد على الهيمنة الأمريكية قد بدأت قبل ثمانية عشر عاماً، لكنها على الرغم من تراجعها ظلت متماسكة حتى يومنا هذا. وستبقى أمريكا قوة عظمى، تلعب أدواراً مهمة في السياسة الدولية، لفترة قادمة يصعب التنبؤ بمداها.
لكن هذا التقرير من جانبنا، لا يعني أن الخط البياني للقوة الأمريكية، لا يتجه نحو الأسفل.
فروسيا الاتحادية تتحدى الإرادة الأمريكية فتفصل القرم عن الأراضي الأوكرانية وتضمها إلى أراضيها، وتشرع في دعم المتمردين في أجزاء أخرى من أوكرانيا. وتعلن عن استعدادها للمواجهة العسكرية لما أطلقت عليه استفزازات «الناتو»، ليس ذلك فحسب؛ بل إنها تُقدِم في سابقة لم تحدث منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، على إغلاق ثلاث مناطق في البحر الأسود أمام السفن الحربية الأجنبية، كما تتخذ إجراءات بحق الدول التي ترى أن علاقاتها غير ودية معها.
والصين، تخرج أيضاً عن عزلتها السياسية وتحذر اليابان، من تقويض مصالحها، ومن القبول بالمخطط الأمريكي لنشر صواريخ متوسطة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، مشيرة إلى أنها لن تقف مكتوفة الأيدي. وبالمثل أيضاً، هناك تحذير صيني بالغ الخطورة، من قرار الحكومة اليابانية التخلص من أكثر من مليون طن من المياه الملوثة وصرفها في المحيط، وهو أمر اعتبرته الصين عملاً من أعمال الحرب.
وقد توسعت علاقات الصين في القارة الإفريقية. ومؤخراً، نقلت الأنباء، خبر موافقة إيران على منح قاعدة عسكرية للصين فوق أراضيها.
وهناك حلفاء رئيسيون للولايات المتحدة، باشروا التمرد العلني على المصالح الأمريكية، وأخذوا يؤسسون لعلاقة استراتيجية مع روسيا والصين. فتركيا تتحدى إدارة الرئيس بايدن، وتقدم على شراء معدات عسكرية روسية متطورة. وبايدن يرد على التحدي بتوجيه تهمة الإبادة الإنسانية لتركيا بحق الأرمن.
الأحداث التي أخذت مكانها على الجبهة السورية، مع إسرائيل خلال الأسبوع المنصرم، والتطورات الحالية التي تجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تنبئ بمزيد من التصعيد في هذا السياق.
إنها حقاً مؤشرات انتقال جديد وعسير في العلاقات الدولية، ومخاض ولادة جديدة لنظام دولي، نأمل من القلب أن يكون أكثر تكافؤاً وتسامحاً وعدلاً.