آخر تحديث: 21 / 11 / 2024م - 10:22 م

هزيمة العقل الباطن

فؤاد الجشي

حياة الإنسان مليئة بالتجارب والدروس والمواقف عبر التاريخ، خيارات متعدّدة تصل إليك، إما أن تواجهها أو تقع في فخّها، تفرض عليك أن تتحول من شخص إلى آخر، يتبدل كلّ شيء، إنسانيتك، أعماقك التي آمنت بها من الخير أو الشّر، تحاول أحيانًا أن تكون قالبًا نظيفًا أو عكسه، حسب الضمير الذي استيقظت عليه.

كثيرٌ منّا لا يعلم إلى أين تقوده الحياة، أحلام تتشكل، لكنّها تختفي حتى تؤمن بغيرها، حالة استكشافية مستمرة، وما بينها قصة تجرفك إلى الضفة المظلمة حين تجد نفسك بين الحلم واليقظة، واقع لم يكن يتخيّله عقلك، تقف أمام العدالة، يخبرك القاضي بأنك قتلت زوجتك برغم إيمانك وشرفك وقيمك التي مارستها في بيت هادئ. حين يسقط اللجام من على رأسك، تجد القيود في يديك ورجليك، تنظر إلى القاضي والمدّعي والمحلّفين، غضبٌ يملأ عقلك ورئتيك، عاجزٌ عن الدفاع عن نفسك.

ليست هناك أدلة تثبت جريمة القتل، لكنّ الخيانة وقعت مع عشيقها، ذلك الشعور القاسي الذي أفقده شرفه الاجتماعي والعائلي، رغم عدم وجود بصماته على تلك السكينة في مسرح الجريمة.

صرخ الحاجب معلنًا دخول القاضي، وأعضاء هيئة المحكمة في صدر القاعة، أعلن القاضي حكمه بالسجن المؤبد، غادر الجميع، انتقل إلى سجن الشاطئ الأسود، مصفّدًا بالأغلال، ينظر من خلال نافذة الحافلة المليئة بالمتهمين، إنّها المرة الأخيرة التي يرى فيها شوارع المدينة.

التقى بالمتّهمين في دار السجن، أعلن حكايته للآخرين، البعض ما زال يعلن براءته برغم السّنين التي عاشوها، الأمر ليس سهلًا، وسامته أعلنت حالة الطوارئ لبعض المجرمين، الضرب كان حليفه كي يخضع، إصراره وصبره أمدّه بالشجاعة دفاعًا عن نفسه، برغم الجروح الجسدية والنفسية، التي ملئت ظلمًا وجورًا.

مضى عليه سنتان، صداقته القريبة من عماد الذي حُكم عليه بالمؤبد رغم العشرين سنة التي أمضاها، استطاع سعيدان بخبرته المحاسبية أن يساعد رئيس السجن والحرّاس العمل على تقليل دفع الضرائب، وكان ذلك سبباً في تعيينه مساعداً لرئيس السجن في القضايا الإدارية والمراسلات داخل السجن.

كان دائمًا يتحدث عن الأمل عندما أبلغ عماداً، أن يجلب له إزميلاً صغيراً من خارج السجن. استغرب عماد الطلب!، أقنعه باحترافية النحت على الحجر، حتى ذلك الوقت لم يكن مقتنعاً بالأمل الذي ذكره سابقًا ولاحقًا، ما الأمل الذي يتحدث عنه؟

إنّه السجن المؤبد، قضى عشرين عامًا داخل السجن وما زال يتحدث عن الأمل.

في ذلك الصباح الباكر، فتحت أبواب العنابر للتأكد من وجودهم أمام الزنازين للذهاب إلى وجبة الإفطار، باستثناء سعيدان، صرخ الحارس بكلّ حماس من الدور الأرضي للسجن أن يخرج، لكن بدون فائدة. بدأ قلب عماد ينبض ويسأل: أين ذهب؟

ذهب الحارسان للتأكد من وجوده، المفاجأة كانت مدهشة، الجميع في حيرة وسؤال: كيف هرب؟

حضر مدير السجن والمساعدون إلى الزنزانة محاولين اكتشاف المجهول، الشيء الذي رأوه هي تلك المنحوتات الحجرية، بينما الغضب والأمطار الرعدية القوية جعلته يرمي بقوة ذلك المنحوت الصغير على الصورة الجدارية الضخمة المعلقة لامرأة جميلة، اخترقت وسطها، لكنّها استقرّت في ظلمات تعقبها ظلمات، اندهش الجميع أمام تلك الصورة في تلك الفكرة المجنونة.

حدّقت تلك الأعين تنظر داخل ظلام النفق الصغير، قرعت الأجراس وأطلقت الكلاب للبحث عنه. الأمطار الرعدية ساعدته على خفض درجة صوت كسر بعض أنابيب تصريف المياه والولوج داخلها ثم الهرب من السجن.

انتهت مدة البحث بعد فترة طويلة في محاولة للقبض عليه ولم ينجحوا. الفرحة كانت على وجه عماد، تذكر كلمته عن الأمل، بأنّ الأشياء الجيّدة لا تموت أبدًا، الإنسان دون أمل كالنبات دون ماء برغم الظروف التي ساقته إلى ذلك السجن والبراءة التي ما زال يؤمن بها في نفسه.