بين المبادئ والقيم والعادات والتقاليد
مساء يوم السبت 2 جمادى الأولى 1441 هـ 28 ديسمبر 2019م، أرسل إليّ أحد الأساتذة الأعزاء يسألني عن تعريف المبدأ والقيمة، والفرق بين العادات والتقاليد، مع ذكر بعض الأمثلة التوضيحية، فقلت في جوابه:
أظن أن المسؤول ليس بأعلم من السائل لولا تواضعه ولطفه، فمن القلب شكرا لكم مولانا.
كما تعلم مولانا فإن اللغة العربية تذكر لكل مفردة أكثر من معنى ومعنى، ومن ذلك ما يتعلق بهاتين المفردتين «المبادئ والقيم» وبعض ما تذكره ربما هو من مصاديق الاستعمال أكثر مما هو معنى للكلمة ذاتها.
ومتى ابتعدنا عن المعاني اللغوية، ففي حدود فهمي القاصر أن القيم تتعلق بالأشياء سواء كانت مادية أم معنوية، وبمكانتها لدى الإنسان، وما تمثله من أهمية في الحياة، وما لها من قيمة متدنية أو مرتفعة.
فالأشياء ترتفع أو تنخفض قيمتها بما تمثله للإنسان من أهمية، وبما لها من أثر في الحياة، فالأسرة والأصدقاء والممتلكات... كلها من القيم، أو دعنا نقول: لها قيمة وأهمية في حياتنا.
أما القيم في المفهوم الإنساني والمنظور الاجتماعي، فهي مجموع الفضائل، سواء في المنظومات الدينية، أم الاجتماعية، أم الأخلاقية... أم غيرها، لأن هذه الفضائل هي المحققة لسمو الإنسان ورفعته، والعاملة على ضبط سلوكه في أقواله وأفعاله، ليكون معتدلا، وسائرا على الصراط المستقيم في كل شؤون حياته.
ولعله من هنا تم وصف الدين الإسلامي «بالدين القيم، ودين القيمة» لأنه الدين السوي، والقائم على الوسطية والاعتدال، وأيضا لما له من قيمة عظمى وأهمية كبرى في حياة الإنسان، بما يحققه للمجتمع الإنساني من توازن واعتدال في حياته الدنيا، ومن سعادة أبدية في الحياة الآخرة.
ولأن القيم تتعلق بالأشياء ذاتها، أصبحنا نصفها بالعليا والدنيا، وذلك حسب طبيعتها، وما هي متصفة به من حسن أو قبح، وحسب آثارها بما فيها من خير أو شر.
فالكذب والغش والخيانة... كلها من القيم الدنيا لما هي متلبسة به من قبح ذاتي، ولما يترتب عليها من شر وفساد.
والصدق والأمانة والوفاء... كلها من القيم العليا، لما هي متلبسة به من حسن ذاتي، ولما يترتب عليها من خير وصلاح.
وهذا - كما تعلم - ليس مبنيا على ما يذهب إليه الأشاعرة من أن الأفعال والصفات ليس لها أية قيم ذاتية، ليصح أن نصفها بالحسن أو القبح العقليين، وإنما الحسن والقبح في أفعال البشر وصفاتهم استفدناه من الدين، فما أمر به الدين فهو حسن، وما نهى عنه فهو قبيح، ولو عاد إلى ما أمر به فنهى عنه لأصبح قبيحاً، ولو عاد إلى ما نهى عنه فأمر به لأصبح حسناً، وأما العقل فهو قاصر عن إدراك الحسن والقبح في الأفعال والصفات.
وإنما مبني على ما يذهب إليه العدليون «الإمامية والمعتزلة» من أن للأفعال والصفات قيماً ذاتية يدركها العقل مستقلا بغض النظر عن الحكم الديني، فمن هذه الأفعال والصفات ما هو حسن بذاته، ومنها ما هو قبيح بذاته، والله لا يأمر إلاّ بما هو حسن، ولا ينهى إلاّ عما هو قبيح، لا أن الفعل يصبح حسناً أو قبيحاً بعد تعلق الأمر الإلهي به.
فالوفاء - مثلاً - حسن بذاته، والعقل يدرك - مستقلاً - حسن الوفاء، لا أن الوفاء أصبح حسناً بعد أن أمر الله به، ونقض العهد قبيح بذاته، والعقل يدرك - مستقلاً - قبح نقض العهد، لا أن نقض العهد أصبح قبيحاً لأن الله نهى عنه.
ولو فرضنا - وفرض المحال ليس محالا - أن الله نهانا عن العدل - مثلا - فإن هذا النهي لا يغير ماهية العدل، ولا يخرجه من الحسن إلى القبح، كما أنه سبحانه لو أمرنا بالظلم، فإن هذا الأمر لا يغير ماهية الظلم، ولا يخرجه من القبح إلى الحسن.
ذلك أن الأوامر والنواهي الإلهية لا تغير ماهية الأشياء، ولا تخرجها عما هي متلبسة به من صفات.
أما المبادئ فكما قلت: ربما اختلف معناها وفق اختلاف موارد استعمالها، وفي مجال حديثنا هذا، فهي قد تعني أصول الأشياء وليس الأشياء ذاتها، أي قواعد الأشياء وأصولها التي تم البناء والتأسيس عليها، كما هو الحال في قولنا: مبادئ الأخلاق، أي أصولها وقواعدها، ومبادئ علم الفلسفة، أو الكلام، أو أي علم آخر، أي أسسه التي يقوم بها، وقواعده التي يرتكز ويتكئ عليها.
نعم، في التعبيرات العامة «وربما حتى العلمية والمتخصصة منها» درج استعمال «القيم والمبادئ» كمترادفات، وربما ذلك لما بينهما من تشابه وقرب في المعنى، إذ أن المبدأ هو مبدأ الشيء وأصله، والقيمة هي الشيء ذاته.
أما العادات والتقاليد فحالهما حال مفردتي «المبادئ والقيم» من الناحية اللغوية، يختلف معناهما وفق اختلاف موارد استعمالهما.
ولكننا متى ابتعدنا عن اللغة، فبحسب مفهومي البسيط أنهما بمعنى واحد، وهو ما يعوّد المجتمع نفسه عليه في حياته، سواء في طريقة المأكل، أم الملبس، أم إلقاء التحية، أم الزواج... ليصبح تقليدا اجتماعيا تم التعارف عليه، وأصبحت تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.
والعادات كما تكون عامة إذا كانت على المستوى الاجتماعي، تكون خاصة إذا كانت على المستوى الفردي، كمن يعوّد نفسه على التدخين، أو الإكثار من شرب الشاي، أو النوم على نوع خاص من الموسيقى.
ومع أن البعض حاول التفريق بين مصطلحي العادات والتقاليد، إلا أنني - في حدود اطلاعي القاصر على بعض هذه المحاولات - ما رأيت أصحابها ذكروا فرقا حتى غير جوهري فضلا عن جوهري، ولذا تلك المحاولات لم تقنعني على المستوى الشخصي، وإن كانت ربما تكون مقنعة لغيري، ولا شك إنني أستفيد منكم في أي تصحيح وتوجيه مولانا العزيز الكريم.