فلنجعلها تجارة رابحة
﴿وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ﴾ الحشر - 18
كان المرجع الديني الورع المرحوم آية الله العظمي السيد ميرزا مهدي الشيرازي «أعلى الله مقامه» قد حفر لنفسه قبراً في ساحة منزله بكربلاء، وكَفَنهُ على سجادة صلاته دائماً، فعندما كان يقوم بعد منتصف الليل ليؤدي صلاة الليل يلبس الكفن أولاً، فينزل داخل القبر ويُحدّث نفسه قائلا: «يا ميرزا مهدي إعتبر نفسك الآن ميتاً، وهذه حفرتك التي يدفنونك فيها شئت أم أبيت.
قل لي من يفيدك هنا غير عملك الصالح!؟ فلم لا تستزيد منه؟ ولماذا تغفل عن مصيرك هذا، ولم لا تُمهّد لرقدتك هذه.
يُردد هكذا ويُكرر ويبكي، ثم يتلو الآية الشريفة: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون َ﴾ المؤمنون «99 - 100»
ثم يوبخ نفسه قائلاً: أُسكت، إِنك لا تستحق العودة إلى الحياة فقد ضيعت الفرص التي منحها الله إياك، ولكنّه يعود ويلتمس ويتعهد أن يعمل صالحاً فيقول لنفسه: أخرج، لقد سمحنا لك هذه المرة بالعودة!
وإياك أن تعود إلى حفرتك وأنت خالي اليدين من الباقيات الصالحات.
وهكذا يقوم خارجا من القبر مؤتزراً كفنه وهو يشكر الله على منحه فرصة الحياة ونعمة العودة لاكتساب الحسنات.
من المتعارف عليه أن كل تاجر في هذه الدنيا في نهاية كل عام يَجرُد بضاعته، يُراجع حساباته، ويضع ميزانية جديدة لعام جديد، فبالمحاسبة والجَرد يتعرف على وجُوه المكاسب ومصادر الخسائر.
الله سبحانه وتعالى يَعتبر المؤمنين «تُجّار» في هذه الحياة و«أفضل ربحٍ» يُحقّقه في هذه التجارة هو عمله الصالح وأخلاقه الفاضلة.
و«أسوأ خسارةٍ» فيها فهي الآثام والمعاصي واتّباع أهواء النفس وظلم الآخرين.
دقائق تُراجع النفس فيها حساباتها ربما يكون الإفلاس في البضاعة ونحن لانعلم.
وَلْتَنْظُر:
النظر للشيء هو إدراكه وإبصاره والتأمل والتفكر فيه.
إذاً النظر الحقيقي يقتضي التفكر، والتفكر يؤدي إلى التخطيط الذي يقودنا إلى العمل.
نَفْس:
جائت النفس هنا نكرة للاستغراق في الجنس فلا فرق بين نفس ونفس.
لِغَدٍ:
الغد هو اليوم الذي بعد يومك الذي أنت فيه.
والمقصود هنا يوم القيامة وسمّاه الله ”غد“ لقُربه وسرعةَ مجيئه.
لا شك أن الغد هو المستقبل الذي نُخطط من أجله ونسعى ونجتهد ونكدح لتأمينه، ولا ضير في ذلك لأنه من الخطأ أن يعيش الإنسان لحظاته الراهنة بمعزل عن التفكير في المستقبل وأخطاره.
وجميلٌ أن يكون الإنسان ناجحاً في عمله مجتهداً في وظيفته، يُسابق الطيور في بكورها يعمل لمستقبله ومستقبل أولاده بلا كلل ولا ملل.
ولكن هذا الإنسان نفسه إذا بحثت عنه وتحسسته في أعمال الخير والصدقات ورعاية المحتاجين واليتامى والأرامل واستشعار آلامهم، ومساعدة الآخرين وقضاء حوائجهم، والتفكير في مشاريع الخير والمساهمة في انشائها، وغيرها الكثير الكثير «فالطرق الى الله بعدد أنفاس الخلائق كما يقال»
تراهُ مفلساً من هذه الأعمال إفلاساً حقيقياً.
المستقبل الحقيقي:
هو مابعد الموت ألا يستحق منّا أن نخطط له وأن نَبذُل الجهد والوقت والمال من أجله.
هي وقفة تأمل مع أنفسنا، لحظة محاسبة، لحظة تفكير.
يقول إمام المتقين : «حاسِبوا أنفسَكم بأعمالها، وطالِبُوها بأداء المفروض عليها والأخذِ مِن فَنائها لبقائها، وتَزوَّدوا وتأهَّبُوا قبلَ أن تُبعَثوا»
ثمرات المحاسبة:
- تزكية النفس وتطهيرها وصلاحها.
روي عن امير المؤمنين : ”ثمَرَةُ المحاسَبَةِ صَلاحُ النَّفْسِ“
- السعادة:
في الحديث عن أمير المؤمنين : ”مَن حاسَبَ نفسَه سَعِد“
- دوام الربح:
قال علي : ”منْ حاسبَ نفسَهُ ربحَ، ومنْ غفلَ عنها خسرَ، ومنْ نظرَ في العواقبِ نجا“
- إدراك الرغائب:
يقول مولى المتقين : ”حاسبوا أنفسكم تأمنوا من اللَّه الرهب وتدركوا عنده الرغب“.
رسالة حُب:
يولد الإنسان ويصبح أمامه مليون خيار ليعيش في هذه الحياة. ولكن إذا جاءه ملك الموت فإنه أمام مصيرين لاثالث لهما.
ونحن نعيش نسمات هذا الضيف الكريم الذي وصفه الله بأنه ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ البقرة - 184
هي فرصة عظيمة لكنها سريعة الإنقضاء، فالأيام معدودة والساعات محصورة.
وحتى هذه الأيام المعدودة تُذكرنا بأن مكوثنا في هذه الدنيا محدود بمدة وزمن إذا انقضى فلا رجوع.
فلنضرب في الأرض، نتسابَق في كل معروف، نُقدِم على كل طاعة، نَتنافس في كل جميل.
فالمؤمن لايشبع من الخير، فلنجعل صحائف أعمالنا شاهدة على أن تجارتنا كانت رابحة.