رمضان في الأدب العربي
شهر رمضان شهر استثنائي بكل ما لهذه الكلمة من معنى، فهو يمتاز على غيره من الشهور بميزات كثيرة وكبيرة، جعلت له منزلة خاصة في نفوس المؤمنين.
فهو شهر العبادة والتضرع والابتهال والمناجاة والصلاة وقراءة القرآن، والتوسل إلى الله عز وجل بالأعمال الصالحة التي تقرب الإنسان إلى ربه، وتنفعه ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾،[1] خصوصا وأنه الموسم العبادي الذي يتضاعف فيه الربح من رب العالمين لعباده المؤمنين الصائمين، الذين هم ضيوف مكرمون عنده جل وعلا.
كما أن فيه الكثير من المناسبات الدينية المقدسة التي زادته شرفا على شرف، وقداسة فوق قداسة، كإنزال القرآن العظيم على قلب النبي الكريم، وغزوة بدر الكبرى، ومولد الإمام الحسن المجتبى، واستشهاد الإمام أمير المؤمنين، ووفاة السيدة خديجة بنت خويلد، ووفاة عملاق الإسلام، ومؤمن قريش المظلوم وعم النبي وكافله وناصره بيده ولسانه: أبي طالب ، وليلة القدر التي هي خير من ألف شهر.
ومن هنا فقد حظي هذا الشهر المبارك باهتمام خاص لدى جميع المسلمين باختلاف طوائفهم ومذاهبهم، وكتبوا فيه وفي بيان فضائله الكثير نثرا ونظما.
فعلى مستوى النثر هناك الكثير من البحوث والكتب والمقالات التي سلطت الضوء على هذا الشهر العظيم، وتحدثت عن فضائله ومناقبه ومآثره، وما يمتاز به على غيره من الشهور، وما له من أثر فاعل في بناء النفس، وتطهير الروح، وتنقية القلب، إضافة إلى ما له من آثار صحية كثيرة أشارت إليها النصوص الإسلامية الشريفة، وأكدتها العلوم الطبية.
أما على مستوى الشعر والأدب، فقد تفاعل الشعراء مع شهر رمضان تفاعلا كبيرا، فنظموا فيه القصائد العصماء، التي تنوعت أغراضها ومضامينها بين تبادل التهاني والتبريكات، وبين التعبير عن الفرح والسرور بإطلالته المباركة، وبين بيان ما له من مكانة خاصة جدا في الإسلام، وبين الدعوة إلى الاهتمام به والتفاعل معه، وإلى غير ذلك من الأغراض والمضامين التي تناولها الشعراء وصاغوها في قوالب شعرية بديعة وجميلة إلى أقصى حدود الإبداع والجمال.
يقول محمد مبارك: «يستلهم الشعراء من فيوضات رمضان ونفحاته أفكارهم للتعبير عن فرحتهم بمقدمه، وبحزنهم لوداعه، وبدعوتهم لانتهاز فرصة حلوله للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بالطاعات، وفعل الخيرات، والتمسك بالباقيات الصالحات»
وهذا عرض مختصر لبعض ما جادت به قرائح الشعراء من قصائد عصماء في مدح هذا الشهر العظيم والثناء عليه، وبيان بعض فضائله ومآثره وآثاره في نفوس وقلوب المؤمنين.
السيد «محمود الهاشمي» يثني على رمضان الثناء العاطر، ويشيد به إشادة كبيرة، ويشير إلى بعض ما فيه من الخير الكثير، والبركات الجليلة، مؤكدا عجز الجميع عن بيان فضله وعظمته، لأن فضله وعظمته فوق وصف الواصفين، بدليل أنه الشهر الذي أشاد به الدين، ومجده النبي والأئمة من آله الطاهرين، ثم يصف تلك الأجواء الإيمانية الروحانية الخاصة التي يمتاز بها شهر رمضان على غيره، والتي لها أبلغ الأثر بناء النفس، وتهذيب سلوك الإنسان، لينتقل بعدها إلى ذكر بعض الأحداث الرمضانية العظيمة، كنزول القرآن فيه، واختصاصه بليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، ومولد الإمام الحسن المجتبى فيقول:
تباركت أقدم مرحبا بك يا شهر
لك الشكر فيما جئته ولنا الأجر
تعاليت شأنا عن ثناء يبثه
لسان أديب جاش في صدره الشعر
وأنت الذي شاد النبي بذكره
وقدّسه الشرع المطهر والذكر
دعيت بشهر الله، وهي كرامة
سمت، وانحنى ذلا لعليائها الدهر
تصوم لك الأجسام عن شهواتها
فلا يعتري أرواحها الرين والوزر
لياليك شعت بالعبادة مثلما
زهت بجلال الصوم أيامك الغر
خصصت بتكريم لو أن أقله
على الذر، فاق الطود في قدره الذر
خصال ثلاث حققت كل غاية
من الفخر دون غايتها الفخر
ففيك كتاب الله أنزل وانجلت
بأنواره الظلماء وانكشف الستر
وفي ليلة القدر التي جلّ قدرها
ولم يبق للأيام من بعدها قدر
تنزلت الأملاك فيها وأقبلت
تحييك حتى انشق عن صبحه الفجر
وفيك بدا فجر الزكي وأشرقت
سماء الهدى لما بدا الحسن الطهر
شعاع تراءى من علي وفاطم
ونجم نمته الشمس في الضوء والدر
أما الشاعر الأمير تميم بن الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، فيبين أن شهر رمضان هو شهر الإقبال على الله، وإخلاص النية في العمل، وأنه أرمض الذنوب، وأحرق السيئات، بسبب ما له من أثر في تنمية ملكة التقوى لدى الإنسان، والتي هي خير زاد له يوم القيامة كما يقول تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾[2] ثم يتمنى أمنية كبيرة وعزيزة على قلوب المؤمنين وأرواحهم، وهي ألا يكون رمضان شهرا واحدا فقط، بل يمتد ليكون سنة كاملة، بل أن يمتد ليكون الدهر كله، وذلك لما فيه من الخيرات والبركات، فيقول:
يا شهر مفترض الصوم الذي خلصت
فيه الضمائر والإخلاص للعمل
أرمضت يا رمضان السيئات لنا
بشربنا للتقى علا على نهل
فليت ظلك عنا غير منتقل
بصالح وخشوع غير منفعل
وليت شهرك حول غير منقطع
صوم وبر ونسك فيه متصل
كما يحيّي مصطفى صادق الرافعي شهر رمضان، معبرا عن فرحته الكبرى وسعادته التي لا توصف بقدومه الميمون، ويؤكد أن رمضان إنما يقبل علينا بالخير والبركة والرحمة، وأن من عظيم بركاته أنه - وإن رحل عنا - إلا أن فضله باق، وخيره دائم، وأثره غير منقطع، فيقول:
فديتك زائرا في كل عام
تحيّا بالسلامة والسلام
وتقبل كالغمام يفيض حبا
ويبقى بعده أثر الغمام
وكم في الناس من كلف مشوق
إليك وكم شجي مستهام
ولا يختلف محمد حسن فقي عن الرافعي في تعبيره عن فرحته الكبيرة بقدوم شهر رمضان واشتياقه إليه، كما يصور تلك القلوب المؤمنة كيف تتلهف للقائه واستقباله، وقد رفع المؤمنون رؤوسهم نحو السماء الصافية يترقبون إطلالة هلاله بفرح واستبشار، ثم يخلص إلى تفضيله ليس فقط على كل الشهور من دون استثناء، بل يؤكد أن شهر رمضان المعظم هو سيد كل الأزمنة والدهور، فيقول في قصيدته عن رمضان التي زادت عن مائة وخمسين بيتا:
رمضان في قلبي همام نشوة
من قبل رؤية وجهك الوضاء
وعلى فمي طعم أحس بأنه
من طعم تلك الجنة الخضراء
لا طعم دنيا، فليس بوسعها
تقديم هذا الطعم للخلفاء
ما ذقت قط ولا شعرت بمثله
أفلا أكون من السعداء؟؟!!
قالوا بأنك قادم، فتهللت
بالبشر أوجهنا وبالخيلاء
وتطلعت نحو السماء نواظر
لهلال شهر نضارة ورواء
تهفو إليه وفي القلوب وفي النهى
شوق لمقدمه محسن ورجاء
رمضان، ما أدري ونورك غامر
قلبي، فصبحي مشرق ومساء
ما أنت إلا رحمة ومحبة
للناس من ظلم شقوا به وعداء
فلقد كرمت من السماء بما أتى
من وحيها، وشرفت بالإطراء
سدت الشهور فأنت سيد عامها
بل أنت سيد دهرها المتنائي
أما أحمد عبد السلام غالي، فيرى أن رمضان شهر عزّ أن تجد له نظيرا، وجلّ عن أن يكون له مثيلا، ذلك أن نفحاته الإيمانية تنقي القلب من كل الشوائب، وتغسل النفس مما ران عليها من الذنوب والآثام، وذلك من خلال الاتصال الروحي في هذا الشهر الفضيل بالملكوت الأعلى، حيث الله والدار الآخرة والنعيم المقيم، ثم يسأل الله عز وجل أن يحفظ لنا وعلينا نعمة الصوم، واللقاء الروحي به جل وعلا، سواء في شبع أم جوع، وعلى كل الحالات فيقول:
عزّ شهر يطيب له اللقاء
وهو للقلب نفحة وصفاء
رمضان وكم تفيض المعاني
عن نداه، وتكثر الآراء
يا إلهي فا حفظ علينا لقانا
إن شبعنا وإن طوانا الخواء
وحدة الحس والمشاعر درب
لحياة يسود فيها العلاء
رمضان كرمت شهر وعزت
بك أيامنا وطاب الفداء
أنت شهر القرآن أنزله الله
وفيه للعالمين الهناء
أما محمد الناصر الصدام فيؤكد أن شهر رمضان هو الشهر الذي تنزّل فيه الوحي المقدس على قلب رسول الله ﷺ، وبهذا يكتسب رمضان قداسة خاصة، لأنه نقطة الانطلاق في إشراقة النور الإلهي على الدنيا ليبدد ظلام الكفر والشرك والوثنية، فيقول:
شهر أزاح عن الدنيا دياجيها
فأشرقت بعد الظلام لياليها
شهر به لاح نور الحق منبلجا
فاهتزت الأرض إجلالا وتنويها
لله كم أبرزت أحداثه قيما
سمت، ولما تزل تسمو معانيها
فيه تنزلت الآيات محكمة
تنهى عن الشر والبغضا نواهيها
إن الشعوب إذا أبناؤها صلحوا
لبوا إلى صالح الأعمال داعيها
كما أن أبا بكر، عطية الأندلسي، يؤكد على أن الصوم ليس فقط عن الطعام والشراب، وإنما هو صوم الجوارح عن الذنوب والآثام، وأن من لم تصم جوارحه فليس بصائم وإن توهم ذلك، بل ليس له من صومه إلا الجوع والعطش كما تثبت ذلك الأحاديث الشريفة، فيقول:
إذا لم يكن في السمع مني تصاون
وفي بصري غض وفي مقولي صمت
فحظي إذا من صومي الجوع والظما
وإن قلت إني صمت يوما، فما صمت
كما يقول أيضا:
ما الخير صوم يذوب الصائمون له
ولا صلاة ولا صوف على الجسد
وإنما هو ترك الشر مطرحا
ونفضك الصدر عن غل ومن حسد
ولا يختلف عنه الصابي حين يقول مقرعا من يصوم عن الشراب والطعام، ولا يصوم عن الظلم والحرام:
يا ذا الذي صام عن الطعم
ليتك صمت عن الظلم
هل ينفع الصوم امرؤ طالما
أحشاؤه ملأ من الإثم؟!!
ومن قول أحمد علي طه في تقديم التهاني والتبريكات بحلول شهر الخير والرحمات:
أحيي القوم بالشهر الكريم
تحية شاعر لبق فهيم
فإني قد عرفت القوم حقا
مشاعرهم أرق من النسيم
وباب الكل مفتوح لضيف
أتى يشكو من الألم الأليم
ففي رمضان يحبس كل شر
ويحبس كل شيطان رجيم
بشهر الصوم أرجو أن تشيدوا
بحسن الصوم لله الرحيم
وهناك الكثير مما جادت به قرائح الشعراء في تمجيد شهر رمضان والإشادة به وبفضله، وبيان ما يجب أن يكون عليه الإنسان المؤمن أثناء الصوم من التزام بالقيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة، والآداب العظيمة، والسجايا الحميدة، والمثل العليا، والتأكيد على ضرورة المحافظة على حرمة هذا الشهر، وعدم انتهاكها بالذنوب والمعاصي، كما تشمل تبادل التهاني بحلوله، والدعاء بالتوفيق لصيامه وقيامه وقبول ذلك منا بأحسن قبول.
وكل ما ذكرناه الآن ما هو إلا غيض من فيض، أو قطرة من بحر، مما ورد في ذلك، نسأل من الله عز وجل أن يكتبنا من الصائمين القائمين، وأن يتقبل ذلك منا بأحسن قبول.