«الأنا» و«الآخر» في ثقافتنا العربية
«الأنا» و«الآخر» شأنهما شأن مجموعة كبيرة من توائمهما، يتسعان لكثير من الخلط والضبابية ومختلف التأويلات. وهما أيضاً من المفاهيم التي ترفض صفة الثبات. فما دامت الأشياء من حولنا تتحرك، وما دام الكون في تغير مستمر، وما دامت تقاليدنا وعاداتنا ورؤيتنا لما يجري من حولنا في تطور دائم، فإن النتيجة الطبيعية هي أن تطرأ تغيرات مستمرة على رؤيتنا تجاه ذواتنا «الأنا» وتجاه الغير «الآخر».
وعلى هذا الأساس، فإن ما نضعه من تعريفات لهذين المفهومين هو وليد لحظة، وهو أيضاً في جزء كبير منه يعكس الصورة الكامنة في وعينا. إنه والحال هذه جزء من متخيلنا. والصورة في الغالب، لا تستطيع أن تركز إلا على البؤرة التي يرغب فيها ويختارها حامل آلة التصوير. إذن فهي ليست صورة «الأنا» أو «الآخر»، في حقيقتهما وواقعهما. إنها والحالة هذه لن تكون إلا اختراعاً متماهياً مع حيلنا الدفاعية. هكذا فالآخر يمثل إسقاطات معاناتنا وانسحاقنا وتجاربنا المرة والطويلة معه.
إن هذه الحيل الدفاعية نتاج رحلة طويلة وقاسية، بدأت منذ نهاية القرن التاسع عشر، حين أخذت سنابك خيول البرتغاليين والإسبان والفرنسيين والبريطانيين في تهشيم ما بناه الإنسان في هذا الجزء من الكوكب الأرضي؛ بل ربما عادت بنا الذاكرة إلى قبل ذلك بوقت طويل، إلى الحروب الصليبية. وقد تعود الذاكرة سحيقاً إلى صراعاتنا مع الإغريق والرومان والدولة البيزنطية.
بعد الحرب العالمية الأولى، كانت لنا تجربة مرة مع «سايكس بيكو» و«وعد بلفور»، والسيطرة على النفط والمعابر الاستراتيجية، وحروب عربية مع الاحتلال الإسرائيلي، وفتن وحروب شملت على الأغلب كل شبر من أرض الأمة العربية.
إن إسقاطات هذه الأحداث تظل معشعشة في اللاوعي، تفرض قوانينها الخاصة وأحكامها الجبرية علينا.
تجاوز حالة الإسقاط، يتطلب منا تفاعلاً واعياً مع عالمنا الرحب السائر نحو غاياته، على الرغم من التضاد وتعدد المسارب. و«الأنا» للأسف، يقتحم السوق العالمية بصيغة التابع، ويستهلك كل ما يُنتجه الآخر؛ لأنه ليس لديه ما ينتجه. إنه يكتفي بتصدير المواد الخام ويتسلم أثماناً بخسة مقابلها، قدر ما توجد به أريحية الآخر، ونادراً ما تجود بشيء، وقد آن لـ «لأنا» أن يكون جزءاً حياً وفاعلاً في ماكينة الإنتاج.
الإمساك بناصية العلم، والولوج إلى العصر الكوني الذي نحياه، هو سبيل للخروج من قمقم الخوف والتردد، وهو الذي يصنع لنا هوية جديدة ومكاناً لائقاً تحت الشمس.. إن التاريخ كان عصر صراع بين الإمبراطوريات والممالك من أجل المصالح، وقد أصبح الآن أعتى من ذلك بكثير، بحكم تغير مفردات القوة وتطورها. إنه الآن عصر الكارتلات الكبرى، والتجمعات الاقتصادية، والشركات المتعددة الجنسية العابرة للقارات. وإذا أردنا أن نكون أسياد أنفسنا ونمتلك السيطرة على مصائرنا ومقدراتنا «ولا شك في أننا نرغب في ذلك» فينبغي استيعاب هذه المسلمات، دون التفريط في حق أو استقلال أو سيادة أو مستقبل، لكن أيضاً بوعي إيجابي منفتح على الثقافات الأخرى ومحرض على التفاعل مع كل ما هو إنساني وخير.
إن الإسقاطات التي عانيناها جعلتنا نختزل العالم بأسره في شرق وغرب، وأحياناً آخر في شمال وجنوب. فنحن حين نتحدث عن «الآخر»، في الغالب لا نعني أولئك الذين يقفون معنا في خندق واحد مناصرين لقضايانا العادلة، في أماكن أخرى من المعمورة، ولكن أذهاننا تتجه فوراً إلى الذين مارسوا الاضطهاد بحقنا.
إن شمولية النظرة إلى الآخر هي عملية ملحة ومطلوبة في هذه الحقبة، فهي أولاً تحررنا من إسقاطاتنا من جهة، ومن جهة أخرى تفتح وعينا على أمم تحث الخطى نحو منافسة القطب المتربع على عرش الهيمنة الدولية.
فالنمو الاقتصادي المذهل في الصين يحمل للبشرية أملاً واعداً بإمكانية إمساك جنس غير الجنس الأبيض بناصية العلم والتقدم، وفي ذلك هزيمة لأفكار عنصرية وغير أخلاقية سادت حقبة طويلة. كما أنه يتيح لنا فرصاً جديدة لكي يدخل مفهوم الشراكة الدولية حيز التنفيذ.
وأخيراً، فإن «الأنا» و«الآخر»، ليسا مرتبطين بالمكان فحسب، فكل تناقض وصراع في داخلنا يقسم خندقنا الواحد إلى «أنا» و«آخر»، ويُحدث شرخاً عميقاً في بنية مجتمعاتنا، وكل اقتراب وتفاعل إنساني بيننا وبين النوع الإنساني في أي مكان من عالمنا، من شأنه أن يقرب مسافات الاختلاف، ويخلق نوعاً من التضامن والتفاعل لما فيه خير الجنس البشري. وكلما تقلصت المسافات كلما بهتت مفاهيمنا ورؤيتنا السلبية عن «الآخر».