آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الإصلاح.. حاجة عربية

محمد المحفوظ *

إن إصلاح الأوضاع العربية وتطوير أحوالها، هو حاجة عربية أصيلة، قبل أن تكون رغبة أمريكية واوروبية، تبلورت وفق أجندة وأهداف خاصة واستراتيجية.

وهي شوق عربي تاريخي ومتراكم وعميق، إذ لا تخلو حقبة من حقب التاريخ العربي الحديث والمعاصر من هذا الشوق والصوت والفعل الذي يطالب بالإصلاح وسد الثغرات وتطوير الأوضاع.

لذلك فإن المطالبة بالإصلاح في الحياة العامة العربية، هو شوق أصيل، قبل أن يكون مشروعاً أميركياً يحتضن في أحشائه الكثير من المصالح الاستراتيجية والاستهدافات التي لا تنسجم ومصالحنا ورؤيتنا لموقعنا الخاص والعام. لذلك من الظلم لعالمنا العربي حينما نتعامل مع مقولة ومشروع الاصلاح، بوصفه مقولة أميركية - غربية. وذلك لأن العديد من الشخصيات والنخب العربية كانت تطالب بالإصلاح وتدفع ثمنه. في الوقت الذي كانت الإرادة الأميركية مغايرة ومناقضة لهذا المشروع.

بل كانت آليات وأدوات السياسة الأميركية في المنطقة معرقلة ومجهضة لكل خطوات ومبادرات الإصلاح.

من هنا فإننا من الأهمية بمكان أن لا نقبل أو لا تنطلي علينا لعبة الإصلاح الأميركي في العالم العربي والشرق الأوسط الكبير.

فالإصلاح بكل بنوده وآفاقه، هو حاجة عربية أصيلة، ودفعنا كشعوب ومجتمعات تضحيات ودماء غزيرة لتثبيت هذا الخيار في الفضاء العربي.

ومن المغالطات التاريخية الكبرى أن نتعامل مع هذه المقولة بوصفها طارئة على عالمنا العربي، أو هي خاصة بالمشروع الأميركي للإصلاح، مما يحول على المستوى الفعلي من تنفيذ خطوات إصلاحية في العالم العربي.

وعليه فإن الإصلاح السياسي والثقافي والاقتصادي في العالم العربي، هو حاجة عربية أصيلة وملحة وبعيداً عن كل الاسقاطات الخارجية التي لا تستهدف سوى مصالحها وأجندتها الاستراتيجية.

وإن هذه الحاجة العربية الملحة والمتعاظمة باستمرار، لا تلغيها شعارات ومشروعات الولايات المتحدة الأميركية للإصلاح.

ولعلنا نجد وبوضوح في الأفق السياسي للمشهد العربي مقولات التأجيل ومشروعات التسويف ويافطات التعليق بدعوى المشروعات والضغوطات الأميركية والأوروبية.

وإننا نعتقد أن هذه المقولات والمشروعات العربية التي تبرر الجمود والتوقف عن مشروعات الإصلاح وفق الأجندة والإرادة العربية، هي ليست مؤمنة بشكل عميق وحقيقي بضرورات الإصلاح في العالم العربي، وتبحث باستمرار عن حجج لترحيل الإصلاح أو تأجيله أو تعليقه وربطه بقضايا ومسائل، نحن نعتقد بشكل جازم أن الإصلاح هو طريقنا لنيل حقوقنا في تلك القضايا والمسائل.

وما نود أن نؤكد عليه في هذا المقال، هو أن إصلاح الأوضاع في العالم العربي وفي حقول الحياة المختلفة، هو حاجة عربية أصيلة وشوق تاريخي لكل نخب الأمة. لذلك لا يجوز اغفال هذه الحقيقة أو تشويهها، لأنها تستند إلى عمق تاريخي وشواهد معاصرة، بدعوى أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة مشروع الإصلاح في المنطقة.

إن المجتمعات العربية بكل فئاتها وشرائحها، طالبت وتطالب بإصلاح أوضاعها وتطوير أحوالها، وفي الوقت الذي كانت السياسة الأميركية في المنطقة تحارب كل دعوات الإصلاح، وتجهض كل خطواته ومبادراته.

لذلك لا يصح بأي شكل من الأشكال، أن نزور حقائق التاريخ، وندعي ادعاءات تكذبها وقائع الراهن وأشواق الأمة العميقة للإصلاح والتطوير والتقدم. كما أننا نعتقد وبشكل عميق، أننا لا نتمكن على الصعيد العملي من مجابهة مخططات الولايات المتحدة الأميركية تجاه منطقتنا إلا بالانخراط في مشروع الإصلاح وفق الأجندة والإرادة العربية.

ووجود مشروعات أميركية وغربية للإصلاح في منطقتنا هو مدعاة للتفكير في مشروع عربي للإصلاح نبدأ بتنفيذ خطواته وبرنامجه.

فمن الخطأ أن نواجه مخططات أميركا في المنطقة، بالنكوص من حاجاتنا ومتطلباتنا الحقيقية.

إننا بحاجة أن ننصت إلى حاجاتنا ومتطلباتنا، بعيداً عن مخططات الآخرين وشعاراتهم ومشروعاتهم.

ونرتكب جريمة كبرى بحق أنفسنا وتاريخنا، حينما نتوقف عن مشروعات تلبي حاجاتنا وتفي بمتطلباتنا بدعوى أن الآخرين قد حملوا ذات الشعار أو المشروع.

كما أننا نعتقد وبشكل جازم أن الإصلاح الحقيقي لأوضاعنا وأحوالنا، لا يمكن أن يستورد أو نجلبه من الخارج، وانما هو نابع من داخلنا وحاجاتنا الذاتية. ونحن الذين ينبغي أن نبلور لأنفسنا خطة للإصلاح ومشروعاً للتغيير والتطوير.

وبطبيعة الحال لا يمكن أن نمنع الآخرين عن التفكير في أوضاعنا وأحوالنا، ولكن تفكيرهم ليس مشروعنا، وارادتهم ليست ارادتنا. والمطلوب دائماً هو بلورة ارادة عربية ذاتية، تتجه صوب الإصلاح والتطوير، بعيداً عن مخططات الآخرين وأجندتهم الخاصة والاستراتيجية.

ونحن هنا لا ندعو إلى عدم ادراك تطورات اللحظة الراهنة وتحولاتها، ولكننا نريد أن نقول إن حجر الأساس في مشروعات الإصلاح في العالم العربي ليس مشروعات الآخرين واستهدافاتهم، وانما هو ارادتنا وحاجتنا الفعلية إلى الإصلاح.

لذلك فإن المطلوب ليس التحايل على مشروعات الآخرين أو تزويرها، وإنما الإنصات الدقيق لحاجاتنا ومتطلباتنا الذاتية والداخلية بعيداً عن كل ضغوطات الخارج واملاءاته. فقوتنا الحقيقية ليس في الانصياع لمشروعات الخارج أو تمرير أجندته، وإنما في المزيد من التلاحم الداخلي وتطوير مستوى الرضا بين السلطة والمجتمع في المجال العربي.

فقوة دولنا في استنادها على مجتمعاتها وشعوبها، وهذا يتطلب باستمرار تطوير مستوى الانسجام والمشاركة بين الطرفين.

فصم الاذان تجاه ايقاع المجتمع ومتطلباته وحاجاته، هو الذي يخلق الظروف والمناخ المناسب للخضوع لاملاءات الخارج وأجندته. ولابد أن ندرك أن إصلاح الأوضاع وتطوير الأحوال على الصعد كافة، هو من السنن الاجتماعية الرئيسية، لأن التوقف عن التطوير والجمود على الحال، سيكلفنا خسائر أكبر بكثير من الخسائر المتوقعة لمشروع التطوير والإصلاح.

حيث إننا نعيش في ظل ظروف وتطورات تطال العالم بأسره، وتؤكد وتلح في التأكيد، على أن إصلاح الأوضاع هو أسهل الخيارات وأقلها كلفة.

وإن تلكأ أي مجتمع عن هذا، سيفقده استقلاله وسيدخله في أتون الضغوطات والإكراهات التي ستكلف هذا المجتمع الكثير من الخسائر والأثمان.

إننا مع الإصلاح الذي ينطلق من ذاتنا ويلبي حاجاتنا ومتطلباتنا، ولكننا نعيش في ظل أوضاع اقليمية ودولية تدفعنا إلى الاعتقاد أن تراخينا أو تراجعنا عن مشروع الإصلاح وفق رغبتنا وحاجاتنا ومتطلباتنا، سيدفع المتربصين بنا إلى الضغط علينا وتحميلنا أجندتهم ومشروعاتهم.

لذلك فإن التأخير أو التوقف عن مشروعات الإصلاح في العالم العربي، ليس في مصلحة استقرار واستقلال عالمنا العربي.

وأود في إطار التأكيد على أن الإصلاح حاجة عربية، قبل أن يكون أي شيء آخر، أن أركز على النقاط التالية:

1 - إن إصلاح الأوضاع في العالم العربي، ليس تطلعاً اجتماعياً وشعبياً فحسب، بل هو ضرورة قصوى للاستقرار السياسي في العديد من البلدان العربية.

إذ أن هذه الدول تعيش أوضاعاً وأحوالاً، تستلزم الانخراط الحقيقي في مشروعات الإصلاح حتى يتسنى لها الخروج من مأزق الفتن والتحولات العشوائية غير المدروسة.

فالإصلاح حاجة اجتماعية وشعبية، كما هو ضرورة للاستقرار السياسي. لذلك من الخطأ أن يتم التعامل مع مقولة ومشروع الإصلاح بوصفه مهدداً للمكاسب أو محرضاً على الحكومات.

إن الإصلاح السياسي في العالم العربي، حاجة ماسة للجميع وبدون استثناء، والفوائد والأرباح المتوقعة منه أيضاً شاملة للجميع. فإن الظروف السياسية والاجتماعية في العالم العربي، وصلت إلى مستوى صعوبة بقاء الأمور والأوضاع على حالها، وإن الإصلاح وتطوير الأوضاع هو أقل الطرق خسائر سياسية واجتماعية وإنسانية.

وإن الإصرار على إبقاء الأمور على حالها، ينذر بكوارث خطيرة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لهذا فإن الإصلاح هو ضرورة للحكومات والمؤسسات الرسمية، كما هو يلبي طموحات وتطلعات المجتمعات العربية.

2 - بدون إغفال دور العوامل الخارجية وتأثيراتها السلبية على مستقبل القضية الفلسطينية، فإننا نستطيع القول: إن إصلاح الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم العربي، هو من العوامل والحقائق المساندة لنضال وجهاد الشعب الفلسطيني.

ونخطئ حينما نتصور أن إبقاء الأمور على حالها، سيوفر لنا إمكانية الدعم والإسناد للقضية الفلسطينية. إن إصلاح أوضاعنا وتطوير أحوالنا الاقتصادية والاجتماعية والقبض على أسباب الاستقرار السياسي العميق وتمتين أواصر العلاقة بين السلطة والمجتمع في الفضاء العربي، كل هذا يصب في المحصلة النهائية لصالح القضية الفلسطينية. وذلك لأن هيمنة المشروع الصهيوني في المنطقة، هو وعبر التسلسل المنطقي هو من جراء اهتراء حياتنا السياسية وتراجع أدائنا الاقتصادي. وإن جمود الأوضاع سيشجع العدو الصهيوني على المزيد من الغطرسة والهيمنة.

وفي تقديري أن الرد الاستراتيجي على المشروع الصهيوني وهيمنته وغطرسته وذبحه اليومي لأبناء الشعب الفلسطيني، هو في إصلاح أوضاع العالم العربي وإنهاء نقاط التوتر ومجالات الضعف، وذلك حتى يتنسى لعالمنا العربي ومن موقع القدرة والتميز دعم الشعب الفلسطيني وصولاً لتأسيس دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.

وجماع القول: إن الإصلاح في العالم العربي غير قابل للتأجيل والترحيل، لأنه خيارنا الحيوي الوحيد، الذي نتمكن من خلاله تطوير مستوى الاستقرار وتعزيز البناء الداخلي الوطني والقومي ومجابهة مخاطر الخارج وتحدياته المتعددة والمتشعبة.

كاتب وباحث سعودي «سيهات».