العرب.. الإيديولوجيا والمعرفة
حين نشأت العلوم العربية، تحددت بجلاء العلاقة بين ما هو إيديولوجي وما هو معرفي في حضارة العرب. لقد ظهر جلياً استحالة فصل تاريخ نشأة العلوم عن الإيديولوجيا في الثقافة العربية الإسلامية، التي شكلت مجمل المعتقدات والمواريث التي صنعتها، وحثت على الالتزام بها رسالة الإسلام. لقد كانت الوحدة في الحضارة الإسلامية، بين الدين والعلوم عميقة لدرجة جعلت أي محاولة للفصل بين ما هو إيديولوجي وما هو ابتسمولوجي في ثقافتنا عملاً تعسفياً، جل ما يستطيع فعله هو أن يقدم قراءة لأشلاء متناثرة، من دون حياة فيها أو روح.
فالفكر العربي الذي ندرسه ليس فقط مجموعة من التصورات التي تعكس الواقع العربي، أو تعبر عنه؛ بل هو نتاج طريقة عربية في التفكير، أسهمت في صنعها جملة من معطيات المتفاعلة مع بعضها، منها الواقع العربي نفسه، في مرحلة تاريخية محددة، وبكل ظواهر الخصوصية فيه.
وعلى هذا الأساس، نجد في عصرنا الحاضر، تلك القاعدة المتعارف عليها، في عالم الفكر والثقافة، والتي تقتضي أن الكاتب لا ينسب إلى ثقافة معينة، إلا إذا كان يفكر داخلها. والتفكير داخل ثقافة معينة، لا يعني التفكير في قضاياها، وإنما التفكير بواسطتها؛ لذلك، لا نطلق على المستشرقين صفة المفكرين العرب؛ ذلك لأنهم وإن كانوا يتناولون في دراستهم وتحليلاتهم قضايا عربية وإسلامية ملحة، لكنهم ينطلقون في تلك الدراسات من بيئة ونظرة مغايرة.
ولكي يمكن فهم الخصوصية العربية، لا بد من دراسة البنية النفسية للعربي، صانع هذه الحضارة. وأول ما يواجهنا في هذا السياق، هو أن العربي يحب لغته حد التقديس. والقيمة الأدبية للعربي، ليست فقط في القدرة العقلية، ولكن في الفصاحة أيضاً. وأول عمل مارسه العقل العربي، في ظل حضارته هو جمع اللغة، ووضع قواعد لها.
وهكذا، فبينما كانت معجزة اليونان هي الفلسفة، كان البيان، معجزة العرب. وقد كان المقصود من جمع اللغة وتقعيدها، حماية القرآن الكريم من اللحن. ومن هنا كان اللغويون والنحاة يطلبون اللغة من الأعراب الذين لا يعرفون الكتابة.
كانت المدرسة البصرية، قد وضعت اللغة بكاملها في أنظمة عقلية ومنطقية، وكان هذا النظام اللغوي، الذي أقامته المدرسة البصرية، قد اتخذ من أشعار العرب القدماء دليلاً له يساعده في مهمته. وهكذا كان على الشاعر المستجد أن ينظم قصائده ملتزماً بالأطر اللغوية الجاهزة التي حددتها تلك المدرسة، وأن يستند بشكل دائم على التقاليد اللغوية المعتمدة، أو ما يُسمى بطريقة العرب؛ حيث هي المعيار الأساسي للعمل الأدبي. وهذا أمر، يؤكد بلا شك الإحساس العام عند العرب، بقداسة لغتهم.
كان العرب فيما قبل الإسلام، يتحدثون لغتهم بالفطرة، من دون لحن، وفي المرحلة الأولى، من الحضارة العربية الإسلامية، تكلم الناس من حفظهم، وحفظوا العلم من صحف غير مرئية، من دون اعتماد أي من المقاييس التي تراعى عادة في البحوث العلمية، كوحدة الموضوع، وتبويب المسائل. وكانت البداية الرئيسية في حفظ الموروث هي اكتمال جمع القرآن الكريم، في عهد الخليفة عثمان بن عفان، أما التدوين فبدأ في عهد الخليفة العباسي المنصور، وشكل قفزة نوعية في اتجاه حفظ وحماية الموروث، من التراث الديني.
بل إن هناك من المؤرخين العرب، من ينسب إلى علم أصول الفقة الإسلامي، نشوء علم القانون، وهو علم أريد له أن يكون متميزاً عن القوانين التفصيلية الخاصة بهذا السلوك أو ذاك، علم يمكن تطبيقه في دراسة قانون أي بلد وفي أي مرحلة.
وعندما فكر العرب في استخدام منهج الاستدلال الأرسطوي الجذور، فذلك للاستدلال بالشاهد على الغائب.
وقد استخدم هذا المنهج من سائر المتكلمين العرب، على اختلاف مذاهبهم وتوجهاتهم.
وقد أوضح العلامة محمد بن موسى الخوارزمي، أن اهتمامه بالرياضيات وعلم الجبر، قد هدف إلى مساعدة المسلمين في تقسيم مواريثهم، بحسب نصوص الشريعة.
وهكذا أيضاً، في محاولة فهم الصحيح من الأحاديث النبوية الشريفة، وضعت شروط ومقاييس علمية؛ حيث يقول ابن الصلاح، «متى قالوا حديثاً صحيحاً؛ فمعناه أن اتصل سنده مع سائر الأوصاف المذكورة، وليس من شرطه أن يكون مقطوعاً به في نفس الأمر، وإذا قالوا في حديث أنه غير صحيح، فليس ذلك قطعاً أنه كذب، وإنما المراد به أن لم يخضع للشروط المذكورة، والله أعلم». وكانت تلك من ضمن أهم التجليات العربية في الخلق والإبداع، والتماهي بين الاكتشاف والرؤى.