ثقافة السِّلْم والتّصَالح
﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ البقرة - 208
ذُكرَ في سيرة العالم والعابد الرباني الجليل الشيخ ”معروف الكرخي“ الذي تشرف بالإسلام على يد الإمام الرضا صلوات الله وسلامه عليه، أنه كان يسير ذات يوم مع مجموعة من تلاميذه على شاطئ دجلة، فرأى أحدهم في داخل النهر سفينة عليها ثُلة من الشباب يضربون بالدفّ ويشربون ويلعبون ويلهون، فقال للشيخ:
يا سيدي ألا ترى إلى هؤلاء الفاسقين الضالين يعصون الله مجاهرين، ادع الله عليهم.
فرفع الشيخ يده قائلا:
اللهم كما أدخلت السرور على أفئدتهم في الدنيا فأسألك أن تدخل السرور على أفئدتهم في الآخرة أيضا.
فقال له أصحابه: إنما قلنا لك: ادع عليهم، فقال: إذا فرّحهم في الآخرة تاب عليهم في الدنيا، ولم يضركم شيء.
الشيخ ”معروف“ لم يكن ينظر إلى أولئك الذين كانوا يمارسون المجون واللهو، بعين بشريّته التي من شأنها أن تخلط الانتصار لدين الله بالانتصار للنفس ورعوناتها وأنانيتها، ولكنه كان ينظر إليهم بمنظار عبوديته لله خالصة عن الشوائب، وحقيقة العبودية لله رَحِمٌ بينه وبين الناس جميعا على اختلاف توجهاتهم، فكان الشأن في هذه الرحم أن تبعثه على الرحمة بهم والشفقة عليهم، ومن ثم توَجّه إلى الله لهم بالهداية والتوبة والمغفرة.
”منقول بتصرف“
هكذا هو حال الإنسان المؤمن، متصالحٌ مع نفسه ومع الآخرين، مصدرُ أمنٍ وسلامٍ لكل من حوله، مصدرُ خيرٍ وطمأنينة وعطاء للجميع.
السِّلمُ:
هو السَّلام والصُلح والتَّصالح والهدوء والسَّكينة والمُسالمة.
في هذه الآية دعوة صريحة من الباري موجهة لعباده المؤمنين أن يدخلوا في السلم كافة والدخول هنا يدل على التوجه بطواعية ورغبة ذاتية داخلية.
أما لماذا جاء الأمر موجهاً للمؤمنين دون غيرهم؟
فلأن الإنسان بطبعه تطغى عليه الأنانية والخضوع للأهواء والتنافس مع الآخرين وحب الانتصار للذات، وهذه الطبائع تبعث على التصادم والخصام وبالتالي تؤثر على العلاقات.
ولكن عندما يدخل الإيمان قلب هذا الإنسان فإن هذه الطبائع تتلاشى وتغيبُ الأنانية، ويتهذَّب كيانه ووجدانه، فيصبح هذا العبد الذي يعي معرفة الله في أحاسيسه وانفعالاته ربَّاني التصرف والسلوك، ففي كل حركاته وسكناته يرى كمال الله وعزته وجبروته، وبالمقابل يرى ضعفه وعجزه وذله وفقره وحاجته للخالق فلا يتأتى منه شيء إلا بالمدد الإلهي.
يقول أمير المؤمنين :
”إِنَّ الإِيمَانَ يَبْدُو لُمْظَةً بَيْضَاءَ فِي الْقَلْبِ، كُلَّمَا ازْدَادَ الإِيمَانُ زَادَ الْبَيَاضُ، فَإِذَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانُ ابْيَضَّ الْقَلْبُ“.
الآية تدعونا للدخول لأجواء السِّلم وأن نبتعد عن جو الصراعات والمشاحنات سواء على الصعيد الأسري، أو الاجتماعي، أو على مستوى الخلافات الطائفية والمذهبية التي تهدر الطاقات، وتُضعف الدِّين، وتُشعرنا بالقَهر والظُلم وبالتالي تَجُرّنا إلى حالة من التمزق والتفكيك.
الإسلام يسعى دائما إلى استقرار من ينتمون إليه فتراه يَشِيع التراحم بينهم، وينبذ العنف والتطرّف بكل مظاهره وصوره، وينشر ثقافة الحُب والرفق واللين بين الناس.
قال الرسول الأكرم ﷺ:
«ما مِن عملٍ أحبُّ إلى الله تعالى وإلى رسوله من الإيمان بالله والرفق بعباده، وما من عملٍ أبغض إلى الله تعالى من الإشراك بالله تعالى والعنف على عباده».
الله لم يخلقنا لنتعادى أو لنتناحر بل خلقنا لنتعارف ونتآلف ونتعاون، وندفَع الظلم عن بعضنا البعض.
إضاءة:
إن هذا التأمل لا يتنافى مع روايات أهل البيت في تأويل الآية بكونها نازلة في الولاية.
فعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة﴾ قال: أتدري ما السلم؟
قال: قلت: أنت أعلم.
قال: ولاية علي والأئمة الأوصياء من بعده .
نحن على علم ويقين أن الخير كل الخير في حُبهم وولايتهم.
كذلك نعلم أن المحب لأهل البيت والمتوالي بهم هو الذي يُشاركهم في أهدافهم ويعمل على ضوء أخبارهم وآثارهم، فقد كانوا النموذج الأمثل والأعلى في كل أخلاقيات القرآن الكريم، فحري بنا أن نتخلق بأخلاقهم، ونكون من أهل التسامح والرحمة والعفو والرفق والصفح واللين، فهي جميعها من مصاديق السّلام، خصوصا مع أولادنا، أهلنا، معارفنا وأقرب الناس إلينا.
فالسلم حتى يتحول إلى ثقافة مجتمعية عامة لابد أن يمارسه الأفراد كمنهج سلوكي في الحياة حتى يتجذر في المجتمع.
﴿ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾
ما أجمله من شعار، يكتنفُ معاني الرُّقي والسّمو والعيش بهدوء وطمأنينة.
فطوبى للعاملين به.